في تفسير مقاطعة الانتخابات الجزائرية
المقاطعة بوصفها فعلا سياسيا هي أحد وجوه التغيب عن المشاركة في الانتخابات. ولا يمكننا أن نعتبر كل المتغيبين عن الانتخابات النيابية في الجزائر، أخيرا، مقاطعين سياسيين، ولا يصحّ كذلك اعتبار 19 مليون جزائري، بلا رأي ولا موقف، أو أنهم مستهترون إلى الحد الذي يمنعهم من اختيار من يمثلهم في البرلمان.
تغيّب الشعب عن أهم ممارسات الفعل الديمقراطي دليلٌ على إخفاق نظام الحكم في إقناع قطاع كبير من هذا الشعب بجدّية تغير ممارسات هذا النظام، وصدق نياته في بناء الجزائر الجديدة المزعومة. وعدم المشاركة في الانتخابات تعد، عند قطاع ليس قليلا من المتغيبين، رفضا لنظام حكم فاسد، وامتناعا عن منح شرعية شعبية لنظام سلطوي متعفّن، كما لا يعتبرون المقاطعة، أو الامتناع عن الترشّح أو التصويت، توقفا عن النضال، وعن طرح البدائل ونشر الوعي السياسي بضرورة صناعة مشهد سياسي يليق بالجزائر.
تغيرت فلسفة الحكم في الجزائر، بعد أن يئست السلطة من جلب الشرعية من الشعب، واكتفت بمن التفّ حولها من الانتهازيين السياسيين، والنخب القديمة التي أثثت المشهد السابق، الأمر الذي جعل الرئيس عبد المجيد تبون يصرّح بأن المشاركة لا تعنيه ولا تهمّه. وعلى الرغم من ذلك، قدّمت السلطة، لصناعة مشهد انتخابي تنافسي، تسهيلاتٍ وإغراءاتٍ كثيرة، للتشجيع على المشاركة، وخصوصا للشباب دون 40 سنة. وقد أقرّت منحهم مبالغ مالية للقيام بحملتهم عند ترشّحهم أحرارا، على الرغم من امتناعها، في وقت سابق، عن منح الاعتماد لأحزابٍ شبانية انبثقت من الحراك الشعبي.
الحاجة الملحّة للتغيير أصبحت مسألة حتمية، فالوضع السياسي والاقتصادي لم يعد محتملا
وقد كان النظام الانتخابي سخيا، وقدّم تسهيلات للترشّح، فمقعد برلماني واحد لا يتطلب سوى جمع مائة استمارة، وكأنه ترشّح لنيل مقعدٍ في مجلس بلدية صغيرة. ولتشجيع المشاركة، تم إلغاء رأس القائمة والاكتفاء باختيار القائمة والتأشير على المرشّح المختار فيها، لأجل زيادة الناخبين من المعارف وأبناء العمومة والأقارب وأبناء العرش والطريقة الصوفية. وعلى الرغم من هذا السخاء وهذه التسهيلات، إلا أن المشاركة التي أعلنت عنها سلطة الانتخابات كانت خجولة، و لم تتعدَّ 23% إلا بقليل، وحتى الشباب وقوائمهم الحرّة أخفقت في صناعة مشهد سياسي قوي، إلى درجة أن بعضهم حصل على أصوات أقل من عدد استماراته التي قدّمها للترشّح. وقد اعتبر محللون كثيرون أن أسباب المقاطعة كثيرة، أهمها:
سلطة الانتخابات المعينة، والمكونة من رجال النظام في عهد الرئيس بوتفليقة، يرأسها محمد شرفي الذي كان وزيرا للعدل ومشرفا على القضاء (يتهم بأن أحكامه كانت تقرّر بالهاتف) فترتي 2002 و2012، في حكومتي السجينين بتهم الفساد، أحمد أويحيى وعبد المالك سلال.
القانون الانتخابي الذي لم تُستشر فيه الطبقة السياسية، ويظهر من هندسته، لكل قانوني أو سياسي، أنه معدٌّ لتشجيع طرق الحشد غير السياسية، المتمثلة في القبيلة والعرش والطريقة الصوفية، لإخراج مجلس غير مسيس، ولا يحمل أي انتماء أو مشروع سياسي، على الرغم من انتماء المنتخبين للأحزاب.
اختصار السلطة مطالب الحراك في رحيل بوتفليقه عن الحكم فقط، مع بقاء رجاله، على الرغم من أن الحراك الأصيل، كما يسميه دستور الرئيس تبّون، طالب برحيل النظام، ولكن السلطة تصرّ على إعلان نهاية الحراك، بتحقق مطالبه برحيل بوتفليقة، الأمر الذي توجس منه كثيرون، معتقدين أن النظام يريد أن ينتج ذاته بأدواتٍ هو يختارها، ومنها الانتخابات الموجّهة التي أقصي من الترشح لها كثيرون محسوبون على الحراك بحجج أمنية واهية.
على النخب السياسية المنتمية للحراك أن لا تذهب بعيداً في المعارضة العدمية
لم تكن المقاطعة يوما حلا، على الرغم من أنها أداة للعقاب وللتعبير، إلا أن الحاجة الملحّة للتغيير أصبحت مسألة حتمية، فهذا الوضع السياسي والاقتصادي لم يعد محتملا. وعلى النظام الذي أثبتت الوقائع أنه لم يغير ممارساته، ولم يتخلص من أساليبه البالية التي أثبتت عدم نجاعتها أن يراجع نفسه، ويفتح ورشات حوار جادّة، لا يقصى منها أحد حتى تقتنع الأكثرية الغائبة أو المغيبة بالعودة إلى صناعة المشهد السياسي والانتخابي الحقيقي، لأن طريق الانتخابات ذات المشاركة المحترمة بقانون انتخابات عادل ستكون أقل تكلفة من أساليب التغيير التي ستكون وبالا على الجميع.
على الرغم من أن مخرجات هذه الانتخابات التي كانت متوقعة، بعودة الأحزاب التقليدية والتي شاركت وحدها فيها، ليست ذات أهمية، فلا يمكن أن نعتبر البرلمان الجديد إلا فترة انتقالية غير معلنة في كنف الدستورية، إذا ارادت السلطة أن تساهم في بناء حقيقي للجزائر الجديدة. كما على النخب السياسية المنتمية للحراك أن لا تذهب بعيدا في المعارضة العدمية، وتحاول أن تقدّم نفسها طرفا سياسيا منظما له مشروع متكامل بعيدا عن الديماغوجية والشعارات.