في ثمانين محمود شقير
مشكلتان، وربما أكثر، تُربكانك إذا أردتَ الكتابة عن محمود شقير. ليس منهما أنه شيخ القصّاصين الفلسطينيين، وأن حضوره كاتبا ومثقفا وناشطا يمتد إلى نحو ستة عقود، ما قد "يورّطك" في متاهةٍ تحيّرك أي زوايا في عالمه تقترب منها. أولاهما، أن الكاتب الفلسطيني المعروف نثر في سبعة كتب (سيعقبها باثنين) من بين أزيد من 60 كتابا أصدرها، سيرته وحياته وأسفاره وذاكرته وتجربته ذاتها في الكتابة، وبسَط كل ما قد تنشدُّ إلى إضاءته في شأن مساراته في إنتاج أدبه، وفي محطّات حياته، مناضلا وأسيرا في سجون الاحتلال ومبعدا عن فلسطين (ثم عائدا) ونقابيا وفاعلا في العمل الثقافي العام، وقبل ذلك كله وبعده خياراتِه كاتب أدبٍ، منذ بواكير تقليديةٍ كلاسيكيةٍ، مرورا باختباراتٍ جماليةٍ وبنائية، عبورا إلى ألوانٍ من السرد والقص، لا تزيّد في الزعم إن محمود شقير كان صانع التجديد الأبرع فيها، في متن القصة الفلسطينية، فساهم بذلك في رفد القصة القصيرة العربية بأمزجةٍ خاصة. يزداد الارتباك فيك إذا اخترت تعيين مؤاخذاتٍ لديك في مواضع من النتاج الوفير لصاحب "احتمالات طفيفة"، لأنه سبقك في مثل هذا، في مواقع غير قليلة. بل فعلها، مرّة، وكتب عما يراها "طباعا سلبيةً" في شخصيته، ".. شيء من الأنانية في بعض الأحيان، شيء من النزق والشك والحقد والرغبة في الانتقام"، ("مدن فاتنة وهواء طائش"، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2005). وذلك في معرض إشاراته إلى أنه كان مستقيما بوجه الإجمال، ولم يخُن صديقا، وإلى أنه حقّق في حياته نجاحاتٍ لا يعتبرها باهرةً، وأنه وقع في أخطاء صغيرة، من النوع غير الفادح. ويعتقد إنه مسالم، مهذّبٌ وخلوق، ويحاول التغلب على ما هو سلبيٌّ في سلوكه، ويستعين بثقافته لتحقيق ذلك.
كتب محمود شقير هذا في يوم عيد ميلاده الـ59، في العام 2000، ورأى أن هذه الأعوام تكفيه. ثم في عيد ميلاده الـ71، كتب في يوميةٍ نشرها في "تلك الأمكنة" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2020)، إنه بعد تسعة أعوام سيغدو عجوزا في الثمانين. وفي يوم الاثنين الماضي، (15 مارس/ آذار)، وصل إلى هذه الثمانين. ويُخطرنا، بهذه المناسبة، في محاورته مع مجلة رمّان الثقافية، الإلكترونية، إنه لن يُرهق نفسَه في كتابة روايات (أصدر ثلاثا أخيرا، وسحب واحدة من النشر وأعدمها قبل أكثر من أربعة عقود)، وسيواصل القراءة باعتدال، ومشاهدة المسلسلات والأفلام بانتظام، وربما يكتب مجموعة قصصية ساخرة (ستكون الثالثة من نوعها)، وقصصا للأطفال. وإذ تنكتبُ هذه المقالة لتُزجي تحيةً إلى كاتبنا المجدّ، وهو يعبرُ إلى تسعيناته، متّعه الله بالصحة، فإنها لا تستشعر أنها عن عجوز، فلا يصير عجوزا من جعل الكتابة عادتَه اليومية، كما أوضح صاحب "طقوس المرأة الشقية" غير مرة عن نفسه، سيما وأن مشاريعه الكتابية المعلنة تَعدنا بالبهيج والحاذق المعتاد منه. وهو الذي أبلغنا في كتابه، البالغ الأناقة، "أنا والكتابة .." (دار لوسيل، الدوحة، 2018)، إنه لولا الكتابة التي تهب معنى أكيدا لحياته، لما استطاع مواصلة العيش.
ثاني تينك المشكلتين، أن محمود شقير، وإنْ ذاع اسمُه قاصّا، كتب في كل الأدب (باستثناء الشعر)، الرواية والسيرة وأدب الرحلة والسيناريو التلفزيوني واليوميات والمسرح وقصص الأطفال والفتيان والمقالة النقدية والنص المفتوح والخاطرة، كتب عن أمكنةٍ ومدنٍ وناسٍ بلا عدد، كتب عن القدس وسرد عنها حكاية المقاومة والاحتلال، واليوميّ والمعيش فيها. كتب ذاكرتها وراهنها، كتب الشخصيّ والعام. وعندما يعترف بأن الكتابة مصدر قوته الوحيدة (تقريبا بحسبه)، فإن قوة ما حكاه في سردياتٍ وقصصٍ ونصوصٍ تنوّعت أخيلتُها ومحكيّاتُها صبّت في مجرى قوة الحكاية الفلسطينية عموما في مواجهة جهد المحتل في محوها. وفي الأثناء، حقق الأسير المبعد السابق، الكاتب الجديد دائما، محمود شقير، امتيازا رفيعا، في مغادرته أنفاس الإيديولوجيا والواقعيات، الاشتراكية وغيرها، وفي انعطافاته إلى الإبداعي المحض، إلى التجريبي الذي يغامر فيه وينجح، عندما سلك، مثلا، المراوغة مع المفارقة، مع الفكاهة والسخرية، مع استدعاء شخصياتٍ حقيقيةٍ إلى ملعب اليومي الفلسطيني. ومعلوم أنه ظلّ مقيما على قناعاته اليسارية، مع مراجعاتٍ دائمةٍ، وثابر، وهو الحزبي الشيوعي العتيق، على التشديد على التعدّدية والانفتاح. أما مراجعاتُه ما كتب من أدب، وتعيينُه ما يرضيه منه وما لا يرضيه، بل وأيضا إعادته نشْر بعض ما نَشَر معدّلا، فلا أظن أن كاتبا عربيا فعل هذا بالمقادير التي فعلها.
أظنّها هذه المقالة، وقد أربكتها المشكلتان أعلاه، لم تفلح في أن تكون عن محمود شقير، كلِّه ما أمكن، أديبا بانيا، سيد الحكايات، وإنسانا، ومرابطا في ظلال القدس، فهذه مهمّة عسيرة. لتكن، إذن، تحية محبّة إليه في ثمانينه، أطال الله عمره.