في حاجة واشنطن للضغط على تل أبيب لتوقف الحرب
بالتزامن مع صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الداعي إلى وقف إطلاق نار إنساني فوري، تواترت الأنباء عن محادثات "صعبة " بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وعن تحذير بايدن من تناقص "الدعم الدولي" للحرب على غزّة، مع تكرار كليشيهات حماية المدنيين وتسهيل وصول المساعدات. ورغم إحاطة الخلافات بين البيت الأبيض وتل أبيب بأجواء شبه درامية، إلا أنها تبقى أقرب إلى أجواء خلافات عائلية، إذ مهما اتسعت هذه الخلافات أو اشتدّت، فإن الروابط العاطفية تبقى على حالها. وهكذا، يتجدّد الارتباط الأميركي بتل أبيب، مهما توحشت حكومتها وجيشها، ويفشل البيت الأبيض في ملاحظة إلى أين يتّجه الدعم الدولي، وذلك مع الزيادة المضطردة في عدة دول داعية إلى وقف الحرب، ارتفع عددها من 123 إلى 153 في شهرين. وفيما يحذّر بايدن أصدقاءه في تل أبيب من عزلة دولية قد يتعرّضون لها، فإنه لا يخلص من ذلك إلى أهمية وقف الحرب مثلا، بل يرغب فقط في تقليل عدد الضحايا الذين يسقطون، وبالطبع من دون تحميل نتنياهو وجيشه المسؤولية القانونية والجنائية عن الأعداد الهائلة التي قضت، فما زالت هذه النتائج الكارثية في نظره مجرّد خسائر جانبية مأسوف عليها، من دون أن تترتب أية مسؤوليات قانونية وأخلاقية ملزمة عن ارتكاب هذه الجرائم المروّعة وبصورة مستمرّة.
يحاول بايدن خداع شعبه وخداع العالم بأنه يسعى إلى وضع قيود على هذه الحرب القذرة، وجعلها "متوافقة مع القانون الدولي والإنساني"، في وقت شكلت إدارته أكبر داعم لهذه الحرب، وبدون هذا الدعم التسليحي والسياسي الكثيف ما كان أمكن لنتنياهو أن يشن هذه الحرب وبالطريقة التي تمّت وتتم بها، والتي تطيح القانون الدولي والإنساني والمصمّمة لتدمير سائر موارد الحياة ومظاهرها. ولعل الموقف المشين للإدارة الأميركية من تعطيل جميع المستشفيات والمراكز الصحية في قطاع غزّة، والقائم على التغاضي أو ترديد الرواية الإسرائيلية أن المستشفيات مراكز لحركة حماس.. هذا الموقف وحده يكشف عن انعدام النزاهة لدى صانعي القرار في واشنطن، ومباركتهم الفعلية إرهاب الدولة الذي تقترفه حكومة نتنياهو وجيشها.
من المثير للسخرية أن بايدن يحذر تل أبيب من العزلة الدولية، فيما وزراء نتنياهو، ومنهم وزير خارجيته، يتبجّحون بأنهم سيواصلون حربهم بدعم دولي أو بدونه
ومن المثير للسخرية أن بايدن يحذر تل أبيب من العزلة الدولية، فيما وزراء نتنياهو، ومنهم وزير خارجيته، يتبجّحون بأنهم سيواصلون حربهم بدعم دولي أو بدونه مع ما في ذلك من استخفاف بأهمية الدعم الأميركي. وهذه نتيجة طبيعية للعلاقة المَرَضية بين واشنطن وتل أبيب، والتي تضع الأخيرة فوق القانون الدولي وخارجه، ليس بما يتعلق بهذه الحرب فقط، بل في مجمل سلوك الدولة الصهيونية ومنذ نشأتها. ومن الطريف حقّا تحذير بايدن نتنياهو من عزلةٍ محتملة، في وقت تتعرّض واشنطن نفسها للعزلة. وليس أدلّ على ذلك وقوف ثماني دول فقط مع أميركا في رفض القرار الأممي (بعد استبعاد إسرائيل). فقد اصطفّت في رفض القرار دول مثل: ميكرونيزيا ونورو وليبيريا وغواتيمالا وبابو غينيا الجديدة، فيما وقفت مع القرار دول مثل بلجيكا وفرنسا وكندا والصين وسويسرا واليابان وتركيا واليونان والسعودية والإمارات وكوريا الجنوبية وفنلندا والدنمارك والهند وبولندا، إلى عشرات الدول في القارّات الست. وإذ تكابر واشنطن بالتعامي عن ملاحظة موقفها المعزول، بل المنبوذ، فإن الحليف في تل أبيب لا يفعل شيئا سوى التشبّه بالصديق الكبير المنتشي بصوابه السياسي، المزعوم في رعاية حربٍ ضد مدن قطاع غزّة ومخيماته من أجل جعلها مكانا غير قابل للعيش فيه، وهو ما ترصُده منظّمات وهيئات إنسانية وحقوقية وخيرية، لا تكفّ عن التحذير منه، والإلحاح خلال ذلك على وقف الحرب، إلى درجة أن جمعياتٍ كبرى حذّرت بايدن بأنه لا داعي للانشغال بيوم تالٍ في غزّة، إذ لن يكون هناك مثل هذا اليوم إذا تواصل هذا التوحّش بأسلحة أميركية ضد أكثر من مليوني إنسان، لا يملكون شيئا من أسباب الحياة، وتتهدّدهم على مدار الساعة مخاطر القصف والجوع والمرض والعطش والبرد القارس.
تبلّغ البيت الأبيض بالمواقف العربية والإسلامية الداعية إلى وقف فوري للحرب على غزّة، غير أن واشنطن تلحظ محدودية الإجراءات للتعبير عنها
وليس من شكٍّ في أن أي تغيير في موقف واشنطن (ثم لندن وبرلين) مرهون بضغط عربي وإسلامي لوقف الحرب، وبما يتعدّى إطلاق المناشدات. ذلك أن المراكز الدولية الأخرى في بكين وموسكو على الخصوص، لم تبدِ انشغالاً خاصاً بهذه المسألة ينسجم مع خطورتها باعتبارها حرب إبادة، ومع انعكاساتها على استقرار المنطقة، وحتى على اقتصادياتها. فيما الاتحاد الأوروبي، كمؤسّسات عاجز أو غير راغب في اعتماد موقفٍ يفترق عن موقف واشنطن، رغم مواقف نزيهة اتخذتها دولٌ مثل بلجيكا وإسبانيا ومالطا وأيرلندا، ورغم تحسّن الموقف الفرنسي، وموضوعية موقف النرويج من خارج الاتحاد، ودول غربية أخرى انضمّت للمطالبة بوقف إطلاق نار دائم، مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا التي أصدرت معاً بياناً ثلاثياً بهذا الخصوص.
لقد تبلّغ البيت الأبيض بالمواقف العربية والإسلامية المندّدة بالحرب، والداعية إلى وقف فوري لها، غير أن واشنطن تلحظ محدودية الإجراءات الرسمية التي اتخذت للتعبير عن هذا المواقف، وترى في ذلك فرصة للتشبّث بدعم الحرب. وكان لافتا، في زيارة وفد لجنة الاتصال الوزارية العربية الإسلامية واشنطن، منع الوزير الفلسطيني رياض المالكي من التصريح خلالها، رغم أنه المعنيّ أولاً بالحرب على غزّة. ومع ذلك، لم يبدر عن الوفد الزائر احتجاج علني ضد هذا الإجراء الذي يخالف الاعتبارات البروتوكولية في مثل هذه الزيارات، فكيف يمكن، مع غياب رد الفعل على مسألة مثل هذه، أن تراعي واشنطن مجمل الموقف العربي والإسلامي من الحرب، وأن تضعه في حساباتها؟ علماً أن البيت الأبيض بات يدرك أنه كلما طال أمد الحرب الوحشية ازدادت العزلة الأميركية، وازدادت ضغوط الرأي العام في أميركا والغرب، وتقلصت فرص بايدن في الفوز بانتخابات العام 2024 .. ولا يبقى سوى أن تنضمّ الأطراف العربية والإسلامية للضغط على واشنطن، لإيقاف الحرب بدون أيّ تأخير.