في حصاد القهر السوري 2023
من المعلوم به بالضرورة أن في السياسة السورية الكثير مما يتحرّج التصريح به، بينما ينبغي ألا يغترّ أحدٌ باستمرارية حكم الأسدين بعيداً عن الادّعاء بملكية جوابٍ مقنعٍ شافٍ على السؤال الجوهري: "من سيُسقط نظام الأسد في النهاية؟". وليس الغاية من هذا السؤال الشائك سوى تمرين المخيّلة على هذا الاحتمال بطريقة كاريكاتورية، ربما، وقد لعب القدر لعبته، والتاريخ بدا ماكراً بطريقة مستفزّة. وتطرح ضبابيّة الوضع السوري اليوم أسئلة عديدة تبدأ ولا تنتهي، تدخل في مستويات الفرضيات غير المدقّقة، وسياسات الوهم وتسويقه، فما العيب، مثلاً، أن يقول الأسد لشعبه: "لقد أخطأتُ فعلاً بحقّكم"؟ ألم يعتذر وزير الصحة البريطاني، مات هانكوك، قبل الاستقالة من منصبه، لسبب أقل ما يُقال عنه إنه تافه، بعد تعرّضه لانتقاداتٍ لخرقه إجراءات التباعد الاجتماعي بتقبيل زميلةٍ له؟ ألم يعتذر الأخضر الإبراهيمي، المبعوث المشترك لجامعة الدول العربية والأمم المتحدة إلى سورية، لخذلانه السوريين، بعد فشل مفاوضات "جنيف 2" إثر تحوّل قطار التفاوض عن سكّة الحل السياسي؟ غير أن علينا ألا نغفل أهمية السؤال السابق، لأنه ببساطة يتيح مجالاً فسيحاً للتفكير في أسباب بقاء هذا النظام تحت شعار "الأسد أو نحرق البلد" أكثر من خمسة عقود، والذي بدا في بداية طرحه سوريالياً إلى درجة لا تُصدّق. وهنا لا بدّ من النظر إلى ما وراء الأكمة، كما يُقال، ليتضح أنّ هذا "الأفيش" الإرهابي كان الحقيقة الوحيدة لنظامٍ ديكتاتوري متكلّس، وما "انتصارُه" الظاهر على سطح المأساة السورية إلا وجه لهزيمة أخلاقية عميقة. هو الذي يستغرق في أتفه الصغائر لحماية نفسه، ويحوّل الكبائر إلى عجلاتٍ محرّكة لسياساته في بلادٍ غدت أشبه ما تكون بمقبرةٍ جماعية مفتوحة على الجحيم.
كانت مؤشّرات عدّة على إمكانية انفجار الأوضاع في الساحل الموالي مع ازدياد عدد الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي
وإذا سلّمنا بأنّ سنوات الصراع كسرت صورة نظام الأسد المرعبة، إذا صار من المألوف، مثلاً، أن يُهينَ عنصرٌ صغير من المليشيات الأجنبية ضبّاطاً كباراً في الجيش والأمن. مع هذا، يبدو سيناريو سقوط نظام الأسد وردياً بالمبدأ، ويداعب الأحلام، ولكن هل يمكن استجرار بعض الآمال بالتوازي مع انتفاضة السويداء السلمية التي تجاوزت عتبة المائة يوم، والتي لم تشهد ساحاتها أية حالة نشاز، مركّزة على البعد الوطني الجامع الذي يوحّد ولا يشتت؟ هي التي لم تتوانَ، أخيراً، عن الاحتجاج على إعلان المجلس العام للإدارة الذاتية شمال شرقي سورية عن تغييرات جوهرية في هيكلياتها الإدارية، بعد مصادقتها على صيغة معدّلة لـ"عقدها الاجتماعي" بقصد التوجّه نحو توحيد إداراتها المدنية السبع في إطار "إقليم إداري موحد" بمعزل عن حكومة دمشق. على التوازي، كانت ثمّة مؤشّرات عدّة على إمكانية انفجار الأوضاع في الساحل الموالي مع ازدياد عدد الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، من العلويين تحديداً، الذين تناولوا بشّار الأسد وزوجته بشكل شخصي، تزامناً مع الإعلان عن تأسيس حركة 10 آب، والنشاط التحريضي المكثّف لحركة الشغل المدني، إضافة إلى ظهور حركة الضباط العلويين الأحرار، لكن مع تواصل انتفاضة السويداء أحجم نشطاء الساحل عن بدء احتجاجاتٍ تُلاقي حراك الجنوب وتترجم حالة الغضب السائدة إلى أفعال ملموسة، ويرى ناشطون أنّ سبب هذا التقاعس جملة إجراءات قمعية استباقية اتّخذتها مخابرات الأسد للسيطرة على أيّ تطوّر لا يُحمد عقباه.
أصبح الشأن الداخلي السوري متشابكاً ومركّباً بذاته، ولم يعد مقتصراً على مصير النظام، بل تعدّاه إلى انهيار المجتمع السوري
تدفعنا المعطيات السابقة، حُكماً، إلى متابعةٍ حثيثة لحالة اندفاع الأقليات الصامتة في عام 2023 إلى إنهاء حالة الاستنكاف التاريخية عن مقاربة السياسة، بعدما جعلها نظام "البعث" جرماً عظيماً. رغم ذلك، يصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور، كما يصعُب ترجيح أنّ مثل هذه التظاهرات الناعمة وحدها قد تُسقط النظام، ما لم يتم ترجمة صوتها عالي السقف في إنجازاتٍ عمليّة تحوّل الحركة الاعتراضية إلى حالة ذات طابع وطني تتجاوز النطاق المناطقي الضيّق، فالحقائق على الأرض لا توحي بأنّ نظام الأسد يوشك على السقوط، فهو لم يظهر تراجعاً فعلياً في السويداء، ولا اهتم بورقة الأقليات، ولا ثمّة بوادر صريحة لانقلاب الحاضنة الصلبة في الساحل عليه، ولا يبدو أنّ هناك ضغطاً دولياً حقيقياً يؤدّي إلى تغيير سياسي. ولنزد من الشعر بيتاً.. لأول مرّة ومنذ عام 2013 يكشف أمين سرّ حزب البعث في سورية عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب لاختيار قيادات جديدة عبر ما سمّاها "الانتخابات". وأمام مشهد متّسم بالسماجة والاستفزاز، يبدو من العبث التفكير بأنّ أملاً قد يُحاك في تلك القاعة الأشبه بالمصفاة الأمنية، وأن من الاستحالة بمكان حدوث أيّ حلّ سياسي، فالمعلومات المتوفرة تبين أنّ مسألة إبعاد الأسد عن السلطة ما زالت خارج دائرة الأولويات لدى مصمّمي القرار السياسي في الغرب. وعليه، لا يضيرنا الاعتراف بأنّ الأسد تحوّل إلى رقم صعب في المعادلة، رغم أنه لم يخطّط لذلك، ولم يحدُث ذلك بناء على قوة نظامه الذاتية، بل عمل على إنقاذ نفسه بالتسلّل عبر شقوق المأساة السورية. إلى ذلك، أصبح الشأن الداخلي السوري متشابكاً ومركّباً بذاته، ولم يعد مقتصراً على مصير النظام، بل تعدّاه إلى انهيار المجتمع السوري الذي، إضافة إلى الحرب، عانى أكثر من نصف قرن من حكم البعث بنسخته الأسدية، وكانت نتيجته تفريغ البلد من السياسة ورجال الدولة الوطنيين عبر اقتلاع الرموز والنخب المؤثّرة.
الأسد لا يبدو مجرّد دميةٍ ساذجة كما يحلو لكثيرين تصويره، فهو يعرف جيداً أنّ مصيره لا يتوقّف على التظاهرات الشعبية
لربما من التوهّم على وجه الدقة أن نتخيّل الأسد يقدّم أيّ تنازلات، إنه الصياد المتأهب، ينتظر ولا يبادر، يتلكّأ في التفاوض ويحاجج العالم بتشوّه بلدٍ يتحمّل المسؤولية الكاملة عنه. وفيما سبق، تبدو علاقة السببية جليّة لا تقبل أي نقاش، لا سيما بعد قراءة الدوافع المبيّتة، والنظر إلى ما يمكن للأطماع والارتجالات السياسية أن تفعله في تأخير أو تسريع السقوط، فالحليفتان اللتان تعتقدان أنهما ساهمتا في إنقاذ الأسد تريدان مزيداً من "التنازلات السيادية"، التي تبدو كجريمةٍ تسلسليةٍ رتبت الدول الغربية تفاصيلها مسبقاً، بينما يواصل الأسد المراهنة على الوقت في تكرارٍ مقيتٍ لآلياتٍ عنفيةٍ بعورةٍ أخلاقية هائلة، يغضّ العالم النظر عنها لهوْل فجورها. أما الحقيقة المؤلمة في هذا السياق، أنّ سورية أصبحت جزءاً من حلفٍ تقوده سلطات الأمر الواقع، وبالتالي، لن يسقط الأسد إلا بسقوط الحلف كاملاً، وما لم يكن هناك إرادة دولية حقيقية بإيقافه فلن تفيد انتفاضة السويداء، ولا كلّ أنواع التحرّكات السلمية، خصوصاً بعد تفويت فرص تشكيل أجسام سياسية فاعلة قادرة على مواجهة الأسد في المحافل الدولية والضغط عليه.
نافل القول.. عام آخر يمضي وبشّار الأسد ما زال يتقمّص حالة "المنظّر- المعلّم" الهائم في عالمه الوردي، رغم أزماته الداخلية المتصاعدة وسط التضييق عليه عالمياً، وحتى يستقيم أيّ تحليل موضوعي للوضع السوري، سواء راهناً أو مستقبلاً، لا يجب التعامي عن حقيقة مهمة، أنّ الأسد لا يبدو مجرّد دميةٍ ساذجة كما يحلو لكثيرين تصويره، فهو يعرف جيداً أنّ مصيره لا يتوقّف على التظاهرات الشعبية، رغم بروزها معطىً مبشّراً غيَّرَ خريطة الوضع الساكن للحالة السورية المتأزّمة، بل يتوقف على المصالح الدولية والإقليمية مقابل استمراره في الالتزام بشروط الصفقة التي فتحت المجال أمامه ليكون الوارث الأبدي للحظيرة السورية السعيدة.