في خمسين "خلّي بالَك من زوزو"
الفكرة جذّابة، جديدةٌ على نحوٍ ما، مبتكرَةٌ ربما. أن 60 تشكيليّا مصريا رسموا لوحاتٍ وأنجزوا منحوتاتٍ وأعمالا من أجواء فيلم "خلّي بالك من زوزو" ومشاهِده، واستيحاءً من كتابٍ عن الفيلم للقاص والروائي حجّاج أدول، يضمّها معرضٌ في غاليري في القاهرة افتُتح منتصف شهر يناير/ كانون الثاني الجاري ويستمر حتى الثلاثاء المقبل، وذلك بعد اكتمال 50 عاما على أولى عروض الفيلم في ديسمبر/ كانون الأول 1972، والذي "كسّر الدنيا" في وقته، بالتعبير الذائع، حيث يعدّ أحد أكثر خمسة أفلام إيراداتٍ في السينما المصرية، وظلت عروضُه عاما قطعتها أسابيع حرب أكتوبر 1973، في نجاحٍ عَبَر منه أهل الفيلم وصنّاعه إلى انعطافاتٍ مهمةٍ في تجاربهم. سعاد حسني التي دلّ أداؤها ممثلةً وراقصةً ومغنيةً واستعراضيةً على فرادة موهبتها وتنوّع قدراتها الفنية، تعبيرا وأحساسا وأنوثةً. حسين فهمي الذي عزّز الفيلم الشهير كفاءته ممثلا، بعد أدوارٍ له جاء إليها من دراسته الإخراج السينمائي. صلاح جاهين الذي كان "خلّي بالك من زوزو" أول تجاربه في كتابة السيناريو والحوار، وقد استشعرَ في نفسه مشاركةً سابقةً منه في خداع المصريين قبل النكسة. حسن الإمام الذي قالت نادية لطفي إنه لم يهدأ له بالٌ إلا بعد إخراجه هذا الفيلم، ليردّ به على النجاح الجماهيري لفيلم حسين كمال "أبي فوق الشجرة" (عبد الحليم حافظ، نادية لطفي، 1969). ولكن المهم (أو الأهم؟) أنه شدّ المصريين له، في غضون كآبة ما بعد النكسة، وترقّب ما سيعقُب وفاة جمال عبد الناصر، وانتشائهم نسبيا بشيءٍ من التوازن النفسي في حرب الاستنزاف، دلّ على حاجتهم إلى أجواءَ من البهجة، إلى التسلّي بقصةٍ ميلودرامية، ينتصر فيها المهمّش والضعيف طبقيا على واقعِه، بما فيه من إرادةٍ على تجاوز أوضاعه بشجاعة، وهذه هي الفكرة البعيدة في فيلم استعراضي، تجاريٍّ بالتأكيد، متواضع الإمكانات في التصوير والإخراج، عن شابّة (سعاد حسني) ابنة راقصة أفراح (تحية كاريوكا) تقيم في شارع محمد علي، اسم الدلع لها زوزو، تدرُس في الجامعة باسمها زينب، طموحة، ينجذب إليها في حكاية حبٍّ شابٌّ من أسرة غنية (حسين فهمي)، وتقاوم ظروفها وتتفوّق. فيما يقدّم الفيلم صورةً طيبة عن الرقص فنّا، وعن الراقصات لا يخاصمن قيم المجتمع.
على أهمية حدّوتة الفيلم التقليدية، والوعظية الظاهرة فيه، إلا أنه بدا شائقا لجمهورٍ عريض، سيما لمشاهد الغناء والرقص والاستعراض فيه، بحضورٍ أخّاذ لسعاد حسني، لمّا استطاعت تأدية أحاسيس ومشاعر جوّانية، بتعبيرات الصمت والحزن والدهشة والخيبة والفرح، والغواية والتمرّد والقلق والغضب والشقاوة، وكبرياء الأنثى الجريحة. ولا أظنّه نور الشريف غالى لمّا قال إن سعاد حسني ممثلةٌ لم تتكرّر. كما جاء أداء الممثلين البارعين (تحية كاريوكا وسمير غانم ومحي إسماعيل مثلا) قويا ومقنعا. وأتاح هذا كله عناصر نجاحٍ للفيلم الشعبي، غير الهابط بالضرورة على ما استطاب مثقفون ونقّادٌ وصفَه، وإنْ تراجع بعضُهم عن تعاليهم عنه، كما فعل الناقد المجتهد كمال رمزي مثلا. وبدا أنه فيلمٌ جاء في لحظةٍ كان مزاج المصريين ينعطفُ إلى مرحلةٍ أخرى، بتفاصيل مستجدّةٍ، مغايرةٍ، إلى حدٍّ ليس هيِّنا، ما سبقها. وبذلك، جاز القول إن "خلّي بالك من زوزو" لا يحسُن النظر إليه فيلما سينمائيا وحسب، وإنْ لا يمكن، بداهةً، إغفال أن فائض الحيوية في مشاهدِه، وموازاة الكوميديا والفكاهة فيه مع مسحة الحزن الشفيف فيه، ساهما في موضوعته واحدا من أهم (أو أفضل؟) مائة فيلم في السينما المصرية، في أكثر من استطلاع.
استُعيد الفيلم، الشهر الماضي، في عرض نسخةٍ مرمّمةٍ منه في مهرجان سينما البحر الأحمر في جدّة، بحضور حسين فهمي. ولكن استعادتَه في 160 لوحةً وعملا وبروفايلا ومنحوتةً متنوّعة المقاربات الجمالية واللونية دلّت على قوةٍ خاصةٍ فيه، لا يهزّها تقادُمه، بما توفّرت فيه من عناصر انجذابٍ إليه، باقيةٍ منذ 50 عاما. وإذ تنكتب هذه الكلمات، وصاحبُها لم يُشاهد في مُقامه في الدوحة المعرض، النادر النوع، في القاهرة، وإنما شاهد صوَر بعض الأعمال في الصحافة، فإنه يتحمّس للفكرة التي كان وراءها الرسّام سمير عبد الغني، إذ تؤكّد قدرة الفنون على أن تقترض من بعضِها مصادر جمالٍ وفتنةٍ وغوايةٍ .. كيف لا، وسعاد حسني، وليس غيرُها، في متن هذا كله.