في ذكرى جريمة الكونغرس ضد الشعب العراقي
في مثل هذه الأيام من عام 2002 كان الكونغرس الأميركي، بمجلسيه النواب والشيوخ، يناقش مشروع قانون يهدف إلى تفويض رئيس الولايات المتحدة باستخدام القوة المسلحة ضد العراق، وفقا للإجراءات الخاصة بإعلان الحرب المنصوص عليها في الدستور الأميركي. ففي يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول، تقدّم النائب الجمهوري عن ولاية إلينوي، دينيس هاسترت، بمشروع قرار إلى مجلس النواب، وذلك بعد أيام قليلة من خطاب كان الرئيس جورج دبليو بوش الابن قد ألقاه أمام الجلسة الافتتاحية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وجه فيه اتهامات كثيرة للرئيس العراقي صدّام حسين، وأكّد عزم بلاده على استخدام القوة المسلحة لتخليص العالم من نظام صدّام بسبب إصرار الأخير على عدم احترام القرارات الصادرة عن مجلس الأمن وسعيه الدائب للحصول على أسلحة الدمار الشامل. وبعد المناقشة، وافق مجلس النواب على مشروع القانون المقترح، وأقرّه بأغلبية 296 صوتا (من بينهم 81 صوتا للنواب الديمقراطيين)، وعارضه 133 نائبا (من بينهم 126 نائبا ديمقراطيا). وفي يوم 11 من الشهر نفسه، بدأ مجلس الشيوخ في مناقشة المشروع، وبعد انتهاء المناقشه أقرّه بأغلبية 77 صوتا (من بينهم 48 صوتا للجمهوريين) وعارضه 33 عضوا (من بينهم 26 من الديمقراطيين). ثم عرض المشروع على الرئيس بوش الابن الذي وقّع عليه. وفي يوم 16 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2002، صدر القانون رقم 107-243، مانحا بذلك مشروعية أميركية لحربٍ قرّر بوش الابن شنّها على العراق يوم 19 مارس/ آذار/ عام 2003 حملت عنوان "حرب تحرير العراق". وقد استمرّت هذه الحرب أكثر من شهر، سقط خلالها مئات الآلاف من القتلى والجرحى، وأدّت إلى تدمير البنية التحتية للعراق تدميرا كاملا، وإلى احتلال هذا البلد العربي الكبير سنوات، جرت خلالها إزاحة نظام صدّام حسين، وإقامة نظام طائفي مكانه، لم يستطع لا تحقيق الاستقرار السياسي للدولة والمجتمع في العراق، ولا العبور به إلى مرحلة التحوّل الديمقراطي بنجاح.
يبدو استرجاع الأحداث التي أدّت إلى شن الحرب على العراق واحتلاله مفيدا جدا في هذا الوقت، في تقديري على الأقل، لسببين رئيسيين: أن مياها كثيرة جرت في كل أنهار العالم والمنطقة، تكشفت خلالها حقائق تساعد على فهم أدقّ وأعمق للملابسات والأسباب الحقيقية التي أدّت إلى شن الحرب على العراق. ويبدو كذلك ملحّا في وقت تدور فيه رحى حربٍ أخرى، يشنّها بوتين على أوكرانيا هذه المرّة، وتثير جدلا عميقا، يدور في معظمه حول قضايا الشرعية والقانون الدولي والقيم الإنسانية. ومن الطبيعي، في سياقٍ كهذا، أن تفيد المقارنة بين ما جرى للعراق وفيه منذ عشرين عاما وما يجري اليوم لأوكرانيا وفيها اليوم، في إلقاء الضوء على بعض أبعاد هذا الجدل ودلالاته.
تبيّن أن إدارة بوش الابن كذبت على العالم، عامدة متعمّدة، لتضليله، فما الذي يمنع إدارة بايدن من أن تكذب على العالم مرة أخرى بغرض تضليله؟
إعادة نص القانون الذي أصدره الكونغرس، وبموجبه تم تفويض الرئيس الأميركي بشن الحرب على العراق، وإطاحة نظام صدّام، تشير إلى أنه استند إلى مبرّرات عديدة، لم يكن منها مبرّر واحد يتعلق بوجود تهديد مباشر من العراق أو من نظام صدّام، سواء بالنسبة لأمن الولايات المتحدة دولة أو بالنسبة لأمن الشعب والمواطنين الأميركيين في الداخل والخارج، فالقانون المشار إليه ذكر عدم امتثال العراق لشروط وقف إطلاق النار، المحدّدة بقرار من مجلس الأمن، وعدم تعاون نظامه بما فيه الكفاية مع المفتشين الأمميين الذين يبحثون عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وتضمن اتهامات صريحة للعراق تفيد بأنه ما زال يمتلك أسلحة بيولوجية وكيميائية، ويسعى بنشاط إلى امتلاك أسلحة نووية، ما يشكّل في تقدير الكونغرس تهديدا لأمن الخليج، وبأنه يستضيف أعضاء في تنظيم القاعدة من بين المتهمين بتدبير أحداث "11 سبتمبر" في 2001. كما أشار القانون إلى "نظرة العراق العدائية للولايات المتحدة"، والتي يرى أنها تأكّدت عبر محاولة اغتيال جورج بوش الأب في الكويت عام 1993، وعبر محاولات إطلاق النار على طائرات التحالف المكلفة بمراقبة منطقة حظر الطيران العراقي فوق كردستان العراق .. إلخ.
لا يمكن لأي عاقل أن يرى في أيٍّ من هذه الاتهامات تهديدا مباشرا لأمن الولايات المتحدة أو لسلامة أيٍّ من مواطنيها، فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن بوش الابن، مسلحا بقانون أميركي يفوّضه في شن الحرب، توجّه بعد صدور هذا القانون إلى مجلس الأمن لإصدار قرار جديد منه للتصريح للولايات المتحدة باستخدام القوة المسلحة ضد العراق، أو على الأقل لتأكيد سريان مفعول قرار قديم بهذا المعنى، صدر من مجلس الأمن إبّان الاحتلال العراقي للكويت، وأن مجلس الأمن رفض التجاوب مع أيٍّ من هذه الطلبات، لتبين لنا بوضوح أن حرب بوش على العراق عام 2003 كانت عدوانية، وتشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي ولنظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، ومن ثم لا تحظى بأي شرعيةٍ دولية، وهو ما صرّح به أمين عام الأمم المتحدة، بيريث دي كويلار، حين قال إن حرب 2003 "ليست حرب الأمم المتحدة". ومع ذلك، لم يجرؤ أحد في العالم على تقديم أي مساعدة للعراق إبّان الغزو والاحتلال الأميركي للعراق، لا لشيء إلا لأن الولايات المتحدة كانت تهيمن منفردة، وبشكل مطلق، في ذلك الوقت على النظام الدولي، ولأن موازين القوى في هذا النظام لم تكن تتيح لأي طرفٍ فيه القدرة على مناطحة الولايات المتحدة وتحدّي تصرّفاتها على أرض الواقع.
النظام الأميركي ارتكب أعمالا عدوانية عديدة، انتهكت الشرعية الدولية، ليس فقط في العراق، وإنما في مناطق أخرى كثيرة
الأمر مختلف جدا فيما يتعلق بالمبرّرات التي دفعت بوتين إلى شن "عملية عسكرية خاصة" على أوكرانيا يوم 26 شباط/ فبراير من العام الحالي، فمنذ عام 2014، يقود أوكرانيا نظام سياسي لا يخفي عداءه الصريح لروسيا، ويمارس الاضطهاد الصريح ضد المواطنين الأوكرانيين من أصل روسي، ما تسبّب في إثارة أزمة تدخلت فيها روسيا عسكريا، وانتهت باحتلالها شبه جزيرة القرم التي تعتبرها جزءا من أراضيها. وخلال الفترة من عام 2014 وحتى اندلاع الحرب، لم يخف النظام الأوكراني ولاءه للغرب وعداءه لروسيا التي رأت أن تصرّفاته، خصوصا عبر مطالبته العلنية بالانضمام إلى حلف شمال الأطلنطي (الناتو) وترحيب الحلف بهذه الرغبة، تشكل تهديدا مباشرا لأمنها وأمن ملايين الأوكرانيين من أصل روسي. وقد سعى بوتين جاهدا إلى إيجاد تسوية لهذه الأزمة بالوسائل السلمية، سواء عبر محاولاته الرامية إلى تطبيق اتفاقية مينسك أو عبر مطالباته الرسمية حلف الناتو بوقف التوسّع شرقا والعمل على إيجاد نظام أمن أوروبي يحقق الأمن للجميع. ولأن الولايات المتحدة والحلف لم يكترثوا لمطالبه وتحذيراته، قرّر بوتين أن يحصل على ما يريد بالقوة المسلحة، ليس لأنه يعتقد أن تصرّفه هذا يتسم بالشرعية، ولكن لأنه يدرك أنه لم ولن يستطيع الحصول على شي مما يريد بأي وسيلة أخرى، خصوصا وأنه يتصوّر أنه قادر في هذه المرحلة على تحدّي الغرب وفرض إرادته عليه.
حين يدّعي النظام الأميركي الآن، سواء من خلال تصريحات تصدر يوميا عن البيت الأبيض ومسؤولي الإدارة الأميركية، أو من خلال المواقف التي تصدر عن الكونغرس بفرعيه، أن واجبه القانوني والإنساني والأخلاقي يحتّم عليه مساعدة أوكرانيا، لأنها تتعرّض لعدوان ينتهك الشرعية الدولية، فمن الطبيعي أن يسقط القناع الذي يحرص على ارتدائه، وأن يبدو فاقدا، بشكل مطلق، المصداقية التي يدّعيها، فالحقيقة أنه لا يساعد أوكرانيا لأنها تتعرّض لعدوانٍ ينتهك الشرعية الدولية، لأن النظام الأميركي نفسه ارتكب أعمالا عدوانية عديدة، انتهكت الشرعية الدولية، ليس فقط في العراق، وإنما في مناطق أخرى كثيرة. ولأن حليفته الأولى إسرائيل تحتل أرض فلسطين، وترتكب المجازر يوميا في حق شعبها من دون أن يحرّك هو ساكنا، وإنما يساعد أوكرانيا لأن روسيا تتحدّى بحربها عليها قواعد النظام الدولي السائد التي تهيمن عليه الولايات المتحدة منفردة، وتصرّ على تغيير هذه القواعد، بل وتعتقد أنها ستتمكّن من ذلك بالقطع، إذا نجحت في تحقيق أهدافها من الحرب التي تدور رحاها. صحيحٌ أن ما قامت به روسيا في أوكرانيا يعدّ انتهاكا للشرعية الدولية وللقانون الدولي، لكن المشكلة هنا أن الشرعية الدولية لا تجد من يحميها، ومن هو قادر على صيانة احترام القانون الدولي، وفرض تطبيقه على الجميع.
قرّر بوتين أن يحصل على ما يريد بالقوة المسلحة، لأنه يدرك أنه لم ولن يستطيع الحصول على شي مما يريد بأي وسيلة أخرى
في الذكرى العشرين لإصدار الكونغرس قانونا يجيز "حرب تحرير العراق"، ما زلت أتذكّر مشهد وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت، كولن باول، وهو يعرض على مجلس الأمن شريطا مصوّرا لمركبة عراقية متحرّكة يدّعي أنها تحتوي أسلحة بيولوجية. وقد تبين فيما بعد، وبما لا يدع مجالا لأي شك، أن هذه الصور كانت مزيفة. كما تبيّن، بما لا يدع مجالا لأي شك، أن العراق كان خاليا تماما من أسلحة الدمار الشامل، ولم يكن لنظامه الحاكم أي علاقة بأحداث "11 سبتمبر" أو بتنظيم القاعدة. والأرجح أن المشرّعين الأميركين الذين أجازوا لبوش شنّ هذه الحرب الإجرامية المدمّرة على العراق، كانوا يعلمون يقينا أن الإدارة الأميركية تكذب على العالم. وإذا كان قد تبيّن يقينا أن إدارة بوش الابن قد كذبت على العالم، عامدة متعمّدة، لتضليله، فما الذي يمنع إدارة بايدن من أن تكذب على العالم مرة أخرى بغرض تضليله؟
ليس هذا دفاعا عما يقوم به بوتين، لكنه يعبّر عن إحساس عميق بعدم ثقة في تصرّفات الإدارة الأميركية التي لا تريد أن تفعل شيئا لوقف العربدة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.