في رحيل حسين الحسيني
لم يعد الموت مفاجأة في لبنان، مع تردي الأوضاع وتفاقم الأزمات. هذا ما يشعر به اللبنايون يوميا، الذين خسروا أنماط عيشهم وأحلامهم، وتطلعاتهم المستقبلية. لكن رحيل حسين الحسيني (1937-2023)، عرّاب اتفاق الطائف الذي يعتبر تتويجا لجملة من المساعي المحلية - العربية ، والعربية - الإقليمية – الدولية، وتكريسا لمحاولات كثيرة بُذلت في سبيل إنهاء الحرب الأهلية الدائرة (1975 - 1990)، والتي أثرت على المنطقة ككل، زاد من أحزان اللبنانيين الذين فقدوا شخصية مهمة كما عرفوها وخبروها نحو 40 عاما، عندما كان يستقر على كرسي رئاسة البرلمان اللبناني (1984 - 1992)، وبتلك الحيوية التي تنبض فيها الأفكار، والتي نهضت بلبنان من أتون الحرب، وصراعات الطوائف، والفئات السياسية المختلفة، على أمل تحقيق مشروع التماسك الوطني ووجود لبنان دولة.
ظاهرة برلمانية مميزة، تتحدر من الوسط الشيعي التقليدي الذي تحوّل حداثويا، تطوى معها مرحلة من عمر لبنان، من الوحدة التي تحققت بالحدّ الأدنى من التجانس، في وضع طائفي، ليس السبب الرئيسي لمعظم المشكلات التي سادت لبنان في تاريخه الحديث. ولكن السبب يرجع إلى الحذر والشك، اللذيْن تنظر فيهما كل طائفة إلى الأخرى، وإلى الاتجاهات المختلفة داخل كل طائفة، ما عكسته الوثائق التاريخية التي صممّ على الاحتفاظ بها، في مداولات الطائف، منعا للتأويلات الدستورية المتعدّدة.
بقي الحسيني ملتزما بحرية فكره وأكثر التصاقا بلبنان، قبل سقوطه في النظريات التوتاليتارية الحزبية
يفقد لبنان الرجل الدستوري في وقتٍ ما عاد يبلور فيه البلد شخصيات مشابهة في ظاهرها وباطنها، في نفسياتها، سلوكها، وحركاتها. عرف الحسيني كيف يصوغ حواراته في بنية حركيّة طائفية، ميسرّة، من دون سهولة، في فترة الثقافة الطائفية التي سادت في سنوات الأزمة، واحتفظ الرجل بهوامش حرّة من أناقته، ومعالجاته، وعلاقاته، وذائقته من بين رموز سياسية، قلما تجدها بين الشرائح السياسية، الاجتماعية، التاريخية، اليوم. لا يعني هذا التأثر والتماهي مع شخصيته، لكنه الواقع اللبناني المكشوف لشخصيات طالعة من خصوصياتها، فتتحوّل إلى مستوى من الرمز الوطني المعتدل، والمنفتح على القضايا العربية، والخصب، والأرحب في مواطنيته.
ساهم الحسيني في نقل الواقع اللبناني والمجتمع إلى أقصى ما يمكن أن يتراكم في داخل شخصيات لبنانية متباينة، من خليط غير متجانس، مهدت لفترة من الاستقرار، والحوار، والتواصل، ورفض العنف. قد يختلف بعضهم في نجاحها أو فشلها، إلا أن الأمر الذي لا يختلف عليه أحد أن وثيقة الوفاق الوطني اللبناني (1989)، وفي السنوات الأولى لتطبيقها، قد حقّقت نجاحا كبيرا في تهدئة الفرقاء اللبنايين، إلا أن "الطائف" بمفهومه وواقعه كان يعمل على عدم تأكيده (من المسيحيين أكثر من المسلمين الذين سهروا على تنفيذه)، وتنمية الطائفية بدلا من العمل على التخلّص منها، في توزيع الرئاسات والمناصب في الدولة.
بقي ابن شمسطار، الآتي من البقاع اللبناني، ناطقا بمرحلة برلمانية بدأها العام 1972، لم تعرف بهتانا، برلمانيا عريقا اختار لبنان أولا، في ييروتيته التي انخرط في جسمها المديني، ما كان أروعها سياسيا، في أفكارها المتقدّمة، تنوّعها، مشروعها الذي يحمي لبنان والمنطقة، وفي مقارباتها الأزمات، وفي علاقاتها السياسية. احتضنها واحتضنته في زمن الحروب والقتل المتمادي، والموت، والطائفية. ما كان يركن إلى ذلك الجنون والخراب والانتماءات المغلقة، والتقلبات المنتمية إلى اللابلد، وفورة الجماعات المستبدّة.
لم يتصالح الحسيني كثيراً مع سلطة الظواهر الدينية والاجتماعية والسياسية السائدة
بقي الحسيني يدافع، حتى آخر أيامه، عما تبقى من "الطائف" والدستور، ناقدا الإدارة السياسية والقوانين الانتخابية المعمول بها التي نجحت في ترييف المدينة، والحياة البرلمانية، بل عملت على طمسها، وعزّزت أزمنة اليأس اللبناني، والفراغات، والعزلة. بقي الحسيني من الهوامش الكلاسيكية الجميلة، لم يتصالح مع الظواهر السياسية، والحزبية المفخّخة، وأزاح عن كتفيه التواطؤ والتملق والاسترهان للأحزاب، على يقظة بمجريات ساحة النجمة البرلمانية، والقوانين المطاردة في البلاد. لكن الناس صارت في مكان آخر. كأن الزمن لم يعد زمانه، ولا زمن رفاقه الدستوريين من فرقة "العتّالة"، كما كان يسمّيها. لم يبق سوى شارة الزمن الغنائية من "الطائف"، وسط انتكاسات البلاد، وأوضاع على مشارف النهايات، عبّر عنها مرارا بالنظرة الساخرة من كل شيء. هو من حفنةٍ من الرجال الذين يتمسّكون بالمجتمع اللبناني، وتعدّديته، محاولا وزملاؤه فتح نظرات اللبنانيين على دور السوسيولوجيا الحديثة، المتجدّدة في فهم مكونات البلاد وبيئتها، وأحزابها، عبر مساهمات فكرية وعقلانية، عن ضرورة الحفاظ على النموذج، العودة الى الديمقراطية، تجاوز الوضع المذهبي والطائفي ـ والتقسيمات الجغرافية والمناطقية.
إنه الرجل الذي بقي ملتزما بحرية فكره وأكثر التصاقا بلبنان، قبل سقوطه في النظريات التوتاليتارية الحزبية. لم يتصالح كثيرا مع سلطة الظواهر الدينية والاجتماعية والسياسية السائدة، وكما حاول آخرون في بناء سلطات حولهم، مع أنه يتهم بالتمهيد للشيعية السياسية. تغادر معه أشياء من الزمن الداخلي الممزّق، المحطّم، على مسافات مكتظّة بالفشل الشامل، "أمام حقيقة أن السلطة قادرة إذا أرادت، وحقيقة أنها حتى الآن لا تريد الإصلاح" (جملته في 2008، لدى استقالته من منصبه النيابي)، فالسياسي الحقيقي هو الأقل رواجا في لبنان. لذلك احتفظ الرجل بأوراقه، وسكن إلى عزلته النهائية، حارس البوابة بين زمنين، والميثاقية في مراسمها الأخيرة.