في سؤال الحاجة إلى جامعة الدول العربية؟
هل تحتاج جامعة الدول العربية إلى الإصلاح فعلًا، أم أن احتياجات العصر العربي والدولي الراهن تتطلّب حلّها وتأسيس كيان عربي آخر، قادر على القيام بأعباء الواقع العربي الإشكالي، الذي يسير من انقسام إلى انقسام، ومن انهيار إلى آخر، ومواجهة مشكلاته؟
التحدّيات الماثلة في وجه أي كيان جامع من هذا النوع كبيرة وجسيمة، وفي ازدياد، وتعقيدات المرحلة على الصعيدين، العربي والعالمي، مرورًا بالإقليمي، من الصعب تفكيكها وفرزها والعمل على التعامل معها بشكلٍ يمكن أن يوصل إلى نتيجة بنّاءة، وإن قرارات جامعة الدول العربية منذ تأسيسها قبل 78 عامًا (1945)، بقيت غالبيتها الساحقة حبرًا على ورق، وصارت هذه المنظمة العربية بمجرّد ذكر اسمها مثارًا للسخرية المرّة لدى المواطن العربي في كل مكان، خصوصا بالنسبة لمواطني الدول التي عانت وتعاني من مشكلاتها المزمنة الممتدة، وما أكثرها في هذه البقعة الجغرافية، فيما لو تأمّلنا واقعها، من فلسطين إلى العراق إلى سورية إلى لبنان إلى اليمن إلى تونس إلى ليبيا إلى الصومال إلى السودان الذي يعيش اليوم أعتى لحظاته التاريخية، بعد تاريخٍ حافل، مثل دول عربية كثيرة في العقود الأخيرة، التي ابتليت بأنظمةٍ مزمنة، لم تعمل شيئًا لدولها وشعوبها غير تركها في حالة استنقاع، وإقصائها عن الحياة السياسية ومواقع القرار أو المشاركة في صنعه، إن كان داخليًّا أو خارجيًّا، والذي عانى منذ انقلاب عمر البشير واستيلائه على الحكم في 1989 من مشكلاتٍ مدمّرة، من حروب الجنوب وكردفان ودارفور، ما أدّى إلى انهيار سريع للبنى المجتمعية وبنى الدولة، منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية قبل ثلاث سنوات.
ما المنتظر من قمّة الرياض، وهي الخمسون في تاريخ الجامعة 14 منها قمة طارئة، المقرّر عقدها في التاسع عشر من مايو/ أيار المقبل، وقد طرأت أحداثٌ ساخنةٌ تشغل العالم بكامله، بعد أن كان الحديث الشاغل قبل ذلك ينصبّ على عودة سورية إلى جامعة الدول العربية، والحراك الديبلوماسي للنظام السوري ودول عربية عديدة أخرى؟ وهل ستدعو أي دولة عربية إلى عقد قمة طارئة لمواجهة الأحداث المشتعلة في السودان؟
لم يستطع العرب رعاية منجزٍ من منجزاتهم، ومنها جامعة الدول العربية
إذا عدنا إلى الوراء، واستعرضنا القمم التي عقدت إثر أحداثٍ مفصلية أو كبيرة في المنطقة، نرى أن قراراتها لم يكن لها أي أثرٍ فعّال على مستوى التطبيق، ولم يغيّر شيئًا في الواقع، فقمة اللاءات الثلاث التي عقدت في أغسطس/ آب التالي لنكسة حزيران 1967، تبنّت شعار "لا صلح ولا مفاوضات ولا اعتراف بإسرائيل"، فهل التزمت به الدول التي شاركت في صنعه ووافقت عليه؟ أين هي تلك اللاءات، وقد بات لإسرائيل سفارات وبعثات ديبلوماسية في أكثر من بلد عربي، واتفاقيات وتعاون اقتصادي بينها وبين العديد أيضًا؟ وقد حصلت مصالحاتٌ "تاريخية" بعد بيان قمّة البحر الميت في الأردن في 2017، الذي أبدى فيه القادة العرب استعدادهم لتحقيق "مصالحة تاريخية" مع إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي التي احتلتها في حرب عام 1967، من دون انسحاب.
دعت قمّة الرياض بشأن الحرب الأهلية في لبنان، في 1976، إلى وقف لإطلاق النار وتطبيق "اتفاق القاهرة" وقرّرت تعزيز قوات الأمن العربية لتصبح قوة ردع قوامها ثلاثون ألف جندي، شكل السوريون غالبيتهم، واستمرّت الحرب بعدها إلى 1990، وبعد أن وضعت أسس الحل وفق اتفاق الطائف، الذي لم تتغيّر وفقه ولا بعد تطبيقه الأسباب الموجبة والمقلقة لنشوء حربٍ مشابهة، سوف تكون أشدّ ضراوة فيما لو وقعت، فإصدار قانون عفو عن الجرائم التي ارتكبت خلال فترة الحرب لا يكفي، طالما لم توضع أو تطبق أسس العدالة الانتقالية، وبقي الحكم في لبنان قائمًا على المحاصصة الطائفية، وبقيت الطبقة الحاكمة نفسها.
وفي قمّة شرم الشيخ 2003، اتفق القادة العرب على "الرفض المطلق" لضرب العراق وضرورة حل الأزمة العراقية بالطرق السلمية و"تجنّب الحرب"، لكن الحرب وقعت، وتفاقمت الأزمة العراقية، وما زالت، مع كثير من الدماء والضحايا، وتراجع العراق دولة وارتهانها إلى سياسات إقليمية وتفاقم مشكلاتها، وفقدان الأمن في كل مناحي الحياة.
ما يجري في السودان مقلقٌ ومخيف، يحتاج وحده معجزةً من حيث القوة والتأثير لضبطه
هذه مجرد أمثلة للتذكير بأن العرب لم يستطيعوا رعاية منجزٍ من منجزاتهم، ومنها جامعة الدول العربية، فالواقع أن المشكلات المتجذّرة، والتي تعيق إنجاز أي مشروع، لا بد من رصدها والاعتراف بها، والسعي إلى حلّها، وهذا يعدّ أهم المشاريع الفاعلة والواعدة فيما لو تم العمل عليها. ولكن كيف يمكن العمل عليها طالما الاجتماع العربي أمرٌ شبه مستحيل؟ لكل دولة من الدول العربية مشكلاتها وأهدافها وقضاياها وتحالفاتها وارتباطاتها وسياساتها، إن كان مع محيطها العربي أم الإقليمي أم الدولي، ما يمكن أن يكون حجر عثرةٍ في الاتفاق على موقفٍ موحّد من مجمل القضايا الساخنة والمزمنة في المنطقة وما أكثرها. لذلك من الأجدى والأقل حرجًا أن تكون العلاقات على مستوى ثنائيٍّ أو حلقات ضيقة بين بضع من الدول العربية، تتدارس فيها الملفات التي تهمها وموجبات التعاطي معها بالطريقة المقترحة، بلا حرج، إنْ بالنسبة للقضية السورية فائقة التعقيد، أو اللبنانية، أو اليمنية، أو العراقية، أو الليبية، أو العلاقة مع إيران أو تركيا، ولتترك كل دولةٍ تقرّر سياساتها بمفردها، فهذا في الواقع هو ما يحصل فعليًّا، إذ تعمل كل دولةٍ على صياغة سياساتها وعلاقاتها بمفردها ووفق مصالحها مع الدول الأخرى، كأولوية بالنسبة إليها، وهي تعرف أين يمكن أن تقدّم التنازلات وأين يمكن أن تتصلّب في مواقفها أو تجمّد سياساتها، هذا لاحظناه في السنوات الأخيرة، إن كان لدى الدول العربية فيما بينها، أو بين كل دولةٍ وتركيا، أو إيران، وحتى في العلاقات مع القوى الكبرى، كأميركا وأوروبا وروسيا والصين، فالقطيعة التامة لم تكن ممتدّة، والانفتاح غير المشروط لم يكن واردًا، الموقف من قضايا الشعوب المنتفضة أو الثائرة لم يكن واحدًا، أو حتى ثابتًا على مرّ السنوات لدى الجميع، والمثال الأكبر هو الموقف من الأزمة السورية، وقضايا الشعب السوري منذ بدء انتفاضته.
تنهار في بلدان الأنظمة العربية التي تدخل فيها الجيوش في الصراع حياة المواطنين بسرعة، فالعقلية العسكرية لا تعرف غير الحرب، هو ميدانها، وإذا لم تكن تابعةً لحكومةٍ مدنية تقرّر السياسات، فإن سلاحها جاهزٌ لتوجيهه إلى الشعب والتفرّد بالقرارات والسيطرة على المجال العام وصنع السياسات التي تخدم مصالحها.
ما يجري في السودان مقلقٌ ومخيف، وحده يحتاج معجزةً من حيث القوة والتأثير لضبطه، فهل في مقدور جامعة الدول العربية أن تواجه موقفًا من هذا النوع؟ لقد عجزت عن مواجهة المشكلة السورية قبل عشر سنوات، فقرّرت تجميد عضوية سورية فيها، وترك القضية في عهدة الأمم المتحدة، إلى أن وصلت سورية إلى ما وصلت إليه، وبقيت كل مشكلاتها قائمة، فهل يمكن الحديث بعد اليوم عن ضرورة جامعة الدول العربية؟