في صيف لبنان الحارّ
منذ فتح حزب الله الحرب في الجبهة الجنوبية إسناداً لجبهة غزّة، صارت الهجمات المدفعية والغارات الإسرائيلية تتكرّر يومياً على القرى الحدودية، وتتوسّع لتطاول مناطق أخرى خارج الشريط الحدودي. تحوّلت المنطقة؛ شمال فلسطين المُحتلّة، إلى ساحة صراع تشهد تصعيداً تدريجياً، يُهدّد بتفجير الجغرافيا الصغيرة اللبنانية، ويُهدّد أمن المنطقة. بات من الخطر الشديد زيارة المناطق الحدودية، حتّى بالنسبة للإعلاميين، والتحرّك مع قوات الطوارئ الدولية (تشرف "يونيفيل" على أطول فترة هدوء منذ حرب تمّوز 2006)، حيث جرى رصد أكثر من 4500 هجوم، أكثر من 80% منها شنّتها إسرائيل. الناس متعبون جدّاً من الحروب، وسنوات الفساد، والسلوك غير الأخلاقي للمؤسّسة السياسية الرسمية، وبانتظار الأسوأ. والعالم ليس لديه مكان لبلد مثل لبنان، ولا مُؤشّرات لوقف الحرب، وهي قد تحصل في أي وقت قريب.
أرقام النزوح متقاربة في الجبهتين أكثر من مائتي ألف شخص نزحوا، في حين تقترب الأمور من سقف الحرب الشاملة
ينتهج كلا الطرفَين في الضفّتَين تكتيك سياسة الأرض المحروقة، وباتت القرى في المناطق المتقابلة مهجورة بالكامل وشبه مُدمّرة. منازل تحوّلت ركاماً، ومبانٍ سوّيت بالأرض. محالّ ومنازل وسيارات مُتفحّمة. حرائق في الحقول والبساتين. تضرّرت نحو عشرة ملايين متر مربّع، وأكبر الخسائر تلحق بموسم التبغ؛ مصدر رزق أساسي لسبعة عشر ألف عائلة جنوبية (خمسون مليون دولار)، والزيتون، وتُبادُ معامل الدواجن والمواشي. إسرائيل تغتال الزراعة في جنوب لبنان (570 مليون متر مربّع)، مع أخطار التلوث والتسمّم بالفوسفور الأبيض، ما يشكّل خطراً على النظم الطبيعية، ونوعية الحياة، وصحّة الناس وسلامتها، مع اندلاع 812 حريقاً.
تحوّلت مساحات خضراء جميلة إلى رماد، والخسائر تمتدّ إلى خمس سنوات (1700 منزل مُهدّم، وتضرّر أكثر من 14 ألف منزل). وإذا ما توسّعت الحرب تكون الأضرار أكبر، وسط خلاف سياسي داخلي على التعويضات، واعتراضات على تولّي حكومة تصريف الأعمال تعويض المتضرّرين من الدولة "وهي لم يكن لها قرار بفتح الجبهة الجنوبية"، وفي غياب التعويل على التقديمات من الدول المانحة، خصوصاً العربية منها، للمساعدة، كما حصل في حرب تمّوز 2006. شريط من نحو مائة قرية من الناقورة إلى تلال كفرشوبا في جبل الشيخ، المتاخم لمرتفعات الجولان، التهمته النيران، وتهدّد إسرائيل باجتياحه برّياً بعد نزعها الألغام. دفعت الناس، مجدّداً إلى مغادرة بساتينها وحقولها ومواسمها، وثمار فاكهة الصيف من تفاح وعنب وكرز ورمّان، إلى ملاذات آمنة بعد فقدانها موازناتها ومحافظها الشخصية، بسبب الانهيار الاقتصادي، والتدهور النقدي. فاختار حزب الله ترتيب أوضاعه في الحديقة الخلفية مع وليد جنبلاط في الشوف وعاليه، وهو الذي كان حاضراً لمواجهة تهجير أهل الجنوب بفتح المدارس والمستشفيات، وتأمين مستلزمات النزوح القسري في حال حصوله، والتخفيف من الضغط على الحزب، حتّى لا يكون ملفّ النزوح "الخاصرة الرخوة" لتطويعه في المراحل الأخرى من التفاوض، وهو طالما تحدّث عن أولوية السلم الأهلي والمحافظة عليه، كما حصل في مرّات سابقة.
أرقام النزوح متقاربة في الجبهتين أكثر من مائتي ألف شخص نزحوا، في حين تقترب الأمور من سقف الحرب الشاملة، وسط حديث عن زيارة مرتقبة للموفد الأميركي عاموس هوكشتاين إلى إسرائيل للعمل على خطوط ترسيم قواعد اشتباك جديدة تحتوي التصعيد المتبادل، وتسمح للدبلوماسية الغربية بأن تواصل جهودها الهادفة إلى نجاح مُقترح الرئيس الأميركي جو بايدن، والتعويل على أطراف عربية وإقليمية، ليلعب كلّ طرف دوره في إنجاح مسعى وقف إطلاق النار في غزّة والجنوب، لأنّ البديل أمام حركة حماس وإيران والحزب قد يكون دونالد ترامب، واليمين الأميركي والغربي، الأكثر تشدّداً تجاه المنطقة.
سيناريوهات عديدة وصلت إلى طريق مسدود، والنقاشات بشأن خطة بايدن عادت إلى نقطة الصفر، مع تعذّر الوصول إلى اتفاقية في المدى القصير. وفي حين تبدو إسرائيل ملتزمة أمام أميركا بعدم خوض حرب واسعة، خشية دخول قوى ومنظّمات من سورية والعراق، ومناطق جهادية أخرى، تهدد بإبقاء ما تبقّى من الكيان اللبناني في وضع لا يمكن السيطرة عليه من القوى الأساسية. في المقابل، تتحدّث أوساط عربية عن عملية استدراج إيرانية لإسرائيل في لبنان. فيما تفيد مصادر أخرى بأن ردّ المقاومة لا يضرب أساسيات مقترح بايدن. لكنّ المنطقة على شفير انفجار أكبر يطلق مرحلة جديدة من التحالفات العسكرية، ومن ممارسة الضغوط على المقاومة في فلسطين، وعلى أهالي غزّة، ويُهدّد لبنان بمشاهد مماثلة لغزّة تنتشر في كلّ مناطقه.
على الساحة السياسية الداخلية اللبنانية، تتحرّك أفكارٌ أساسها عدم الثقة بين الأطراف السياسية فيما يتعلّق بانتخاب رئيس الجمهورية، والاتفاق على قضايا مختلفة تمثّل متاهة في فائض الشعارات والمبادرات، ويبدو أنّها انتهت إلى اللاشيء، في محاولاتها إشغال الفراغ السياسي بحركة أشبه بمواسم مهرجانات الصيف. يرتاح الثنائي الشيعي لأن الأمور تنتهي عنده بـ"التشاور أو الحوار"، علماً أنّ اهتماماته منصبّة على جبهة تعزيز حضور إيران، الساعية إلى التفاهم مع أميركا على مدى نفوذها الأوسع. يتحدّث قادة الحزب عن "الانتصار التاريخي"، وعن "الكلفة الجانبية" بكونها جزءاً من عقيدة "الصبر الاستراتيجي"، وسط تخبّط المعارضة في انتظار جلاء المسار، حيث تحاول الدبلوماسية الفرنسية والأميركية والفاتيكانية، وغيرها، البحث عن مفردات إنشائية لعجزها وعدم قدرتها على تشخيص اليوم التالي.
همّ اللبنانيين أن يعيشوا، يعرفون أنّ أصواتهم من دون مجيب، ينتشرون على الشواطئ وضفاف الأنهار، وينفرون من أسئلة الحرب
لا يريد اللبنانيون أن يموتوا قتلاً أو انتحاراً، ويدركون أنّهم لا يستحقّون كلّ هذا العقاب. حيواتهم تبدو في انفصام تام، وينغمسون أكثر في لذائذ ومتع الصيف والحفلات الليلية (لا مكان لركن سيارة منتصف الصيف في الجمّيزة، أو مار مخايل، وفي الأشرفية قريباً من الداون تاون، الذي يعود ليستقبل وكالات تجارية كبرى عالمية. هو مهجور فعلياً). إشارات الصيف الساخن أكثر من إشارات الحرب بأمزجة مختلفة مع عمرو دياب ومحمّد رمضان وكاظم الساهر، وآخرين. همّ اللبنانيين أن يعيشوا، يعرفون أنّ أصواتهم من دون مجيب، ينتشرون على الشواطئ وضفاف الأنهار، وينفرون من أسئلة الحرب، أسرى الصيف بدل أن يكونوا أسرى حزب الله، ومفاجآت يحضّر لها في مسرح عمليات، قد يمتد إلى فترة استنزاف طويلة ما بين جنوب لبنان وغزّة، ولا فائدة من وجود رئيس للجمهورية، ما دامت الجمهورية لم تعد موجودة ومن الصعب استعادتها.
مع كلّ خبر سياسي، أو انتقال إلى مرحلة قتالية، تنتشر في الميديا اللبنانية الأخبار عن فنّاني الصيف والتذاكر التي نفدت، والإغراق في إعلانات حبّ الحياة. اللبنانيون يلتهمون الحرب والسلم معاً على طاولات مطاعم ازدهرت وزادت 430 مطعماً هذا الصيف، في سلسلة من 4300 مطعم مشغولة تماماً، تحتاج إلى حجز مسبق للحصول على كرسي، ومثلها مطعم أم شريف في دمشق (!). هذا في وقت كُشف فيه عن استيراد لبنان 38 طناً من السيجار الفاخر (الدولية للمعلومات). هذا الترف الترفيهي لا يعني أنّ الأمور ستبقى وراء الدخان، وأنّ حدثاً من خارج العادي، يمكن أن يُؤدّي الى جحيم آخر.