في ضرورة التمييز بين القيمة وتَمَثُّلاتِها
استفزّت مراسم الاستقبال الحافل التي حظي بها الرئيس الإسرائيلي، إسحق هرتسوغ، قبل أسبوعين في أنقرة، حفيظة كثيرين من المتعاطفين والمؤيدين للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. بالنسبة لهؤلاء، لم يقتصر الأمر على استقبال بروتوكولي يمكن أن تسوّغه "الضرورة"، بل إنه تجاوز ذلك إلى حفاوةٍ مبالغٍ فيها، من الصعب تبريرها. ومن ثمَّ، فقد دخل كثيرون في حالة "صدمة" من رجلٍ عقدوا عليه آمالاً عريضة، ومنَّوا أنفسهم أنه قد يكون المنقذ للأمة المسلمة من هوانٍ تعيشه منذ قرون. وكنت في مقال سابق، في "العربي الجديد" (18/2/2022)، ناقشت ما يعتبره بعضهم ازدواجية معايير في السياق التركي – الإسرائيلي، ومحاولة تلمّس أعذار لأردوغان لا نقبلها من غيره، وانطلقتُ في ذلك من ضرورة التفريق بين الموضوعية والحياد. وفي هذا المقال، أريد استكمال النقاش، لكن من زاوية تَرْميزِ بعض الشخصيات في مخيلتنا الجَمَعِيَّةِ، ثمَّ افتراض نمطٍ سلوكيٍ معين منها، ومحاكمتها بناء على ذلك. بمعنى، أن الخلل قد لا يكون في الشخصيات التي تُرَمَّز، أو أنه غير محصور فيها فقط، بقدر ما قد يكون في من يقومون بالترميز أيضاً، أو بفهمهم القاصر، أو المبالغ فيه لمسألة الرموز.
لا وجود للبطل الخارق (سوبرمان) في عالم الشهادة. هذه خرافةُ وأسطورة
.. يبحث الإنسان منذ طفولته عن رموز وأبطال، بل، وكما يقول بعض علماء النفس الاجتماعي، الإنسان لا يسعه إلا أن يكون هناك رموز وأبطال في حياته. وحسب منطق هؤلاء، الرموز والأبطال يجسّدون القيم الرفيعة، ويتمثلون الصفات الحميدة التي نبحث عنها. إنهم المثال والقدوة اللذان نتوخاهما لبناء عالمٍ أفضل. ويضيفون أن الرموز والأبطال يعوّضوننا نفسياً عن شيء نفتقده أو نعتازه. وهم يمنحوننا شعوراً بالأمل والأمن والأمان والاطمئنان والاستقرار في عالم مليء بالاضطرابات والفقر والمجاعات والحروب والتهديدات من كل نوع. ومن ثمَّ، يقول هؤلاء، لا عجب أن بعض قصص الأطفال التي عمادها شخصياتٌ استثنائيةٌ تحمل بعداً تعليمياً تربوياً، حيث تحفر في وعيهم وتلفت انتباههم إلى السلوكيات اللازمة للنجاح في الحياة وتحسين المجتمع، وكيفية وضرورة تغلب الخير على الشر.
ما سبق كلام جميل، لا غبار عليه، وهو مرتبطٌ بغريزة إنسانية وضرورات قيمية. لكن، يحصل الخلل عندما يبالغ بعضهم في التعامل مع الرموز والأبطال، فيلجأون إلى تقديسهم وإسباغ صفات خارقة وغير واقعية عليهم. حينها، يسقط هؤلاء في وَهْمِ "المُنْقِذِ المُتَخَيل" أمام كل تحدّ وكارثة، كائناً ما كان، أو أخطر من ذلك في "عبادة" الرموز أو الأبطال. ومع أول اختبارٍ لا ترقى فيه تلك الشخصيات إلى مستوى التوقعات، مهما كانت غير واقعية، يحدُث انفصام نفسيٌّ مرير عند الجماهير. لذلك، يحذّر بعض علماء النفس الاجتماعي من ظاهرة "تأليه" الرموز والأبطال. لا تقتصر الأضرار حينها على مجرّد الصدمة بهم والإحباط بسببهم، بل قد تصل حدَّ محاولة تبرير أخطائهم، بدل الاعتراف بها وإدانتها. أما ثالثة الأثافي، فهي إخضاع المنظومة القيمية المرجعية لسلوكيات الرموز والأبطال، بدل أن تكون تلك السلوكيات محكومة بها.
الإنسان لا يسعه إلا أن يكون هناك رموز وأبطال في حياته
أمام هذه الجدلية المُعْضِلَةِ، بين حاجتنا إلى رموز وأبطال، ومحاذير إخراجهم عن إنسانيتهم أو إخضاع المنظومة القيمية المرجعية لتصرّفاتهم، ثمَّة من ينبه، محقاً، إنه ينبغي أن نقدّم هؤلاء ضمن سياق معطيات واقعهم وإكراهاته، بل وكذلك ضعفهم وأخطائهم البشرية. لا وجود للبطل الخارق (سوبرمان) في عالم الشهادة. هذه خرافةُ وأسطورة. أبعد من ذلك، حتى على فرض أن الأبطال والرموز مخلصون لأفكارهم وقناعاتهم المصنفة "فاضلة"، فإن هذا لا يعني أنهم قادرون دوماً على إنفاذها أو ترسيخها في خضم تحدّيات ومعوقات جسام. وبالتالي، يميل هؤلاء إلى البحث عن موازناتٍ صعبةٍ ودقيقة، قد يتفهمها بعضهم، ولا يتقبلها آخرون. هذا يتطلب وعياً وإدراكاً عالياً من الجماهير، وقدرة على التمييز بين المبدأ والقناعة وبين الضرورة والإكراه. لكن، هذا أمر متعسّر، ذلك أن أغلب الناس بسطاء لا يقدرون على التفكير المعقد والمركب، ومن ثمَّ هم يميلون إلى التسطيح، ولا يُبصرون الألوان إلا اثنين، أبيض وأسود.
في القرآن الكريم، نجد مقاربةً فريدةً لجدلية القيمة وَتَمَثُّلِها، إذ يرسّخ منهجاً تكون فيه القيمة هي الحاكمة والإطار المرجعي، مهما ارتفعت مكانة الرمز وعلت، حتى ولو كان الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" (آل عمران: 144). عظمة شخصية الرسول في الإسلام ومحوريته لا تجعلان منه مركزه، بل الرسالة هي المركز. "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ" (الحاقة: 44 – 47). لو استوعب الناس كل المعاني السابقة لكفتهم مؤونة كثيرٍ من التشتّت والضياع والشعور بالخذلان، أو محاولة تبرير الخطأ، أو جعل الاستثناء ضَرورَةً قاعدة وأصلاً.