في عالم بلا قلب ولا عقل ولا ذاكرة
مذهلٌ كيف أن البشرية تقرّر أحياناً ألا تتعظ من دروس الماضي، وتركض بدلاً من ذلك باتجاه مصائر انتحارية. مذهلٌ أكثر أن القيّمين على هذا العالم يتفنّنون في فعل كل ما يلزم من أجل تأبيد أزماتٍ ومعضلاتٍ لا تُنتج إلا حروباً وكوارث ومآسي عابرة للحدود. الموقف الغربي بالأغلبية الساحقة لعواصمه من حرب إسرائيل على الفلسطينيين يندرج في خانة الانتحار ذاك. زعْم امتلاك فهم جازم لسبب هذا الاصطفاف الرسمي لا يخلو من ادّعاء معرفة. لا الخلفية العنصرية للكيل بمكيالين حين يتعلق الأمر بحقّ الشعوب بمقاومة الاضطهاد كافٍ وحده لتفسير وقوف المسؤولين الأوروبيين والأميركيين بهذا الشكل المقرف خلف آلة القتل الإسرائيلية. ولا عنصر التكفير الأوروبي المزمن عن ذنب الهولوكوست يشرح الكثير، ولا المبالغة في تقدير مكانة اللوبي الصهيوني ونفوذه وسط مكاتب صنّاع القرار الأوروبي والأميركي تقدم إجابة مقنعة. والأكيد أن قيم التنوير والحداثة التي تنال أطناناً من الشتائم هذه الأيام بريئة مما يُرتكب باسمها في الحديث العنصري عن الفلسطينيين الذين لا يمكن مساواتهم مع الإسرائيليين في الحق بالحياة، بما أن الأوائل حيوانات بشرية كما أخبرنا مسؤولون إسرائيليون لم يدنهم مسؤول كبير واحد في أميركا وأوروبا، والآخرون وديعة الحضارة الغربية في ذلك الشرق المظلم.
ولأنّ كل ما يمكن أن يُكتب تحليلاً أو تعليقاً يستحيل أن يشرح كيف يكون قتل المدنيين الإسرائيليين إرهاباً بينما قتل أضعاف مضاعفة من الفلسطينيين المدنيين دفاعاً إسرائيلياً عن النفس كما يخبرنا المصفّقون لبنيامين نتنياهو، فإنّ المخيّلة تصبح حرّة في استحضار نظريات مؤامرة لعلّها تفيد في فهم لغز هذه المزايدات الأميركية والأوروبية على نتنياهو شخصياً في الحضّ على الانتقام الجماعي من الفلسطينيين.
ماذا لو أن ما حصل كان شيئاً من التالي: صباح السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، عندما قتل واختطف مسلحو "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وآخرون مدنيين وعسكريين إسرائيليين، أجرى نتنياهو سلسلة اتصالاته الهاتفية وعبر الفيديو كونفرنس مع المسؤولين الغربيين الرئيسيين، وقال لهم ما مفاده: اليهود تعرّضوا اليوم لما لم يُرتكب بحقهم منذ الهولوكوست، قُتل منهم وأسر ما يناهز الـ1300 شخص، إذاً إسرائيل ستظل ثوراً هائجاً فترة طويلة، وهذا يوفّر لكم ولي فرصة تاريخية لو أعطيتموني الأمان: أريحكم وأريح دولتي من كابوس يشغل العالم منذ 75 عاماً، ادعموني من دون تردّد واحموا ظهري عسكرياً في حال تدخّلت إيران وحزب الله في الحرب واصبروا عليّ، برّروا ما سيحصل من قتل جماعي، جِدوا الفتاوى لقتل مدنيين باعتبارهم دروعاً بشرية للإرهابيين أو بيئة حاضنة لهؤلاء ولا تتأثروا بمصرع الأطفال، فهؤلاء الأرقام كما تعرفون مشاريع إرهابيين مستقبليين. في المقابل، بعد شهرين أو عشرة، ستستيقظون لتجدوا عالماً من دون قضيةٍ فلسطينيةٍ تسبّب كل هذا الصداع الأمني والسياسي والاقتصادي للعالم منذ كل تلك العقود.
العرضُ مغرٍ بالنسبة للمسؤولين الغربيين والذريعة متوفرة، ذلك أن قتل هذا العدد من الإسرائيليين وأسرهم في غضون ساعات أمرٌ مخيفٌ فعلاً، فكيف الحال عندما يتلقاه مواطن أميركي أو أوروبي أعفى نفسه من متابعة الشأن العام خارج حدود بلده ليفهم أن ما حصل في ذلك اليوم التشريني ليس مفصولاً عن سياق دموي مستمرّ ضد الفلسطينيين عمره 75 عاماً.
نحن أمام نسخة من أوروبا وأميركا بلا ذاكرة ولا عقل، بعدما سبق أن ضحّتا بالقلب. عين العقل الاعتراف بأن الأمل الوحيد (غير المضمون) بالتخلص يوماً ما من حركة دينية رجعية مثل "حماس" نجحت بحصد 44% من أصوات الفلسطينيين في انتخابات 2006، يبدأ بإرغام إسرائيل على تبديل جلدها وإعادة فتح باب السلام الحقيقي والعادل. إحياء الذاكرة يتحقّق بعدم تقمّص شخصية ميناحيم بيغن في ثمانينيات القرن الماضي وقوله إن الأوروبيين، من خلال اعترافهم بمنظمة التحرير الفلسطينية، يريدون إرغام إسرائيل على التفاوض مع حركة فتح "التي لنصوصها وقع كتاب كفاحي لهتلر".
العقل والذاكرة يمكن استعادتهما لو بُذل جهد عظيم، أما القلب، فمسألة عويصة للغاية، ذلك أن موته يُنهي الأمل بعقلٍ نضرٍ وبذاكرة حية.