في عودة اليسار إلى أميركا اللاتينية
تؤكد الأخبار التي تردنا من أميركا اللاتينية أنّ اليسار في طريقه إلى العودة إلى السلطة، ولم يعد نموذجا كوبا وفنزويلا، المرعبان لتجربة اليسار، يخيفان شعوب دول مثل تشيلي والأرجنتين وبيرو وكولومبيا، آخر الدول الملتحقة بنادي الدول اللاتينية التي سلّمت مقاليد أمورها لليسار، بعد انتخاب رئيس يساري أول مرة على رأس هذا البلد الذي اشتهر بارتفاع منسوب العنف الذي كانت تتخذ منه هوليود موضوعاً لأفلامها العنيفة الناجحة، فمنذ ما يقرب من ثلاثة عقود، كانت أميركا اللاتينية تتأرجح بين أنظمة سياسية يسارية ويمينية، ولم يحدُث من قبل أن تعرّضت هذه القارة للاضطراب بسبب التغييرات في الأنظمة السياسية. وهو ما يدفع إلى الحديث عن نوع من التداول الكبير على السلطة ما بين موجتين كبيرتين، هما اليسار واليمين.
في بداية الألفية الحالية، شهدت القارّة موجة مدٍّ يساري تدريجي، لكنّه عارم، بدأ مع انتخاب هوغو شافيز في فنزويلا عام 1998، وانتخاب لولا دا سيلفا في البرازيل عام 2002، ونستور كيرشنر في الأرجنتين عام 2003، وفوز إيفو موراليس عام 2005 في بوليفيا، وعودة دانيال أورتيغا إلى حكم نيكاراغوا، وفي 2008 وصل إلى الحكم في أوروغواي خوسيه موجيكا، وفي 2010 انتخبت ديلما روسيف نائبة الرئيس لولا دا سيلفا رئيسة للبرازيل، وفي فنزويلا خلف نيكولاس مادورو قائده هوغو شافيز على الرئاسة في 2013. لقد شكلت هذه المرحلة أكبر انعطافٍ نحو اليسار، ما دفع المراقبين إلى إطلاق تعبير "الموجة الوردية" على "غزوة اليسار" للسلطة، وهي بالفعل كانت بمثابة غزوة، لكن عبر الصناديق، لأنّ أغلب اليساريين الذين وصلوا إلى الحكم جاءوا مباشرة من حرب الأدغال والعصابات أو من أحزاب وجماعات كانت تؤمن بالعنف طريقاً للوصول إلى السلطة. لكنّ هذه الموجة لم تدم طويلاً، وسرعان ما اصطدم قادتها، قليلو التجربة، بالواقع العنيد الذي لا يرتفع، وآلت أغلب تجاربهم إلى فشل ذريع، استغلته الأحزاب النيوليبرالية والتيارات الشعبوية لتقفز إلى سدّة الحكم. ومنذ عام 2015، بدأت موجة "المد الوردي" تنكسر، وشملت مرحلة الجزر هذه دولاً كبيرة، مثل البرازيل والأرجنتين التي هيمنت على الحكم فيها تيارات اليمين النيوليبرالي الشعبوي. وساد الاعتقاد بأنّ اليسار في أميركا اللاتينية قد بلغ ذروته، عندما نجح شبح اليمين في إطاحته، وكانت محاكمة لولا دا سيلفا وديلما روسيف في البرازيل عام 2016، وانتخاب سيباستيان بينيرا في تشيلي عام 2018، وإطاحة إيفو موراليس في بوليفيا عام 2020، بمثابة إشارات على نفاد زخم اليسار، وربما رغبة الشعوب اللاتينية في تغيير نموذج حكمها.
تصويت عقابي جماعي ضد سياسات اليمين النيولبيرالي الشعبوي الذي فَقّر شرائح واسعة من شعوب المنطقة
وبينما كان اليمين يعاود الظهور في السلطة في البرازيل وتشيلي وكولومبيا، كان اليساريون في أميركا اللاتينية يعيدون ترتيب أوراقهم، ويراجعون أيديولوجيتهم التي يبدو أنّ أغلب شعوب أميركا اللاتينية تشربتها طوال تاريخ مواجهاتها مع الغرب الاستعماري سابقاً والإمبريالي حالياً. وفي هذا السياق، ستظهر "مجموعة بويبلا" نسبة إلى المدينة المكسيكية التي شهدت عام 2019 اجتماع ممثلي ما يسمّى المحور التقدّمي في أميركا اللاتينية، الذي ضمّ رؤساء دول سابقين وزعماء أحزاب يسارية وتقدّمية بهدف واحد، وضع استراتيجية إعادة تشكيل اليسار التقدّمي في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وإيجاد "محور تقدّمي" يأخذ في الاعتبار الحاجة لتقديم عروض مناقضة للوصفات النيوليبرالية التي دمّرت بلدانهم، تكون مبنيةً على نموذج للتضامن والعدالة الاجتماعية، وتعميق الديمقراطيات وتعزيزها في المنطقة، ومواجهة كل أنواع الاضطهاد السياسي، مع الاحترام الكامل لتقرير مصير الشعوب.
المهم أن يؤدّي الانعطاف اليساري الثاني لأميركا اللاتينية إلى تغييرات في السياسات المحلية
وتزامن تبلور هذا الفكر التقدّمي مع الصعود الجديد لليسار الذي عاود الظهور في المكسيك عام 2018 ، تبعتها الأرجنتين عام 2019، وتتالت انتصارات اليسار في دول مثل بوليفيا عام 2020، وفي بيرو وهندوراس عام 2021، وفي تشيلي عام 2022. وفي الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) فقط في كولومبيا، وإذا استمر هذا المد التقدّمي فسنشهد عودة لولا دا سيلفا إلى الحكم في البرازيل خلال الانتخابات المقبلة. ما دفع المراقبين إلى الحديث عن "موجة وردية ثانية"، تتمتع بدعم إيجابي من أغلبية السكان في جميع أنحاء أميركا اللاتينية، لكنها هذه المرة ليست جميعها ثورية وراديكالية، وإنما ذات نفس واقعي، تقترح إعادة هيكلة اجتماعية عميقة، وتركّز على التضامن والعدالة الاجتماعية والحد من الفوارق الطبقية. ووفقاً لمحللين عديدين، فإنّ الصعوبات الاقتصادية وتزايد عدم المساواة وسوء إدارة الوباء، والتغيرات المناخية الكبيرة التي أثرت على نمط عيش السكان، كلها عوامل جعلت شعوب أميركا يميلون تجاه المرشّحين الذين يؤكدون على سياسة تعزّز العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة في بلدانهم. فما شهدته هذه البلدان نوع من التصويت العقابي الجماعي ضد سياسات اليمين النيولبيرالي الشعبوي الذي فَقّر شرائح واسعة من شعوب المنطقة. وأمام اليسار، في هذه الدول، فرصة تاريخية، لتأكيد مدى صوابية أطروحاته ومصداقية شعاراته، إذا عرف كيف يرفع تحدّياتٍ كثيرة تواجه شعوب دوله.
وفي المقابل، مع عودة هذه الأنظمة اليسارية إلى السلطة، يتوقع أن نرى، في النهاية، عودة التحالف اليساري الكبير إلى العلاقات الدبلوماسية في أميركا، ما قد يخفّف الضغط على دول يسارية راديكالية، مثل كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا. وعلى هذه الأنظمة أن تستفيد من أخطاء الموجة الأولى من حكم اليساريين التي كان يتزّعمها رئيس فنزويلا السابق، هوغو شافيز، عندما ظهرت منظمات إقليمية، بهدف مواجهة الإمبريالية الأميركية وتقديم بديل لدول أميركا اللاتينية التي كانت تحت سيطرة امبريالية أميركا والغرب، فالمهم أن يؤدّي هذا الانعطاف اليساري الثاني لأميركا اللاتينية إلى تغييرات في السياسات المحلية في دولها، تعود بالنفع على شعوبها، فلو نجحت هذه الأنظمة في رفع التحدّي، فإنّها ستبعث لا محالة دينامية جديدة تحرّك الخطوط للتقدّم نحو نموذج عالمي بديل، ما أحوج العالم اليوم إليه.