في عودة كاتم الصوت إلى لبنان
كان كاتم الصوت، في الثمانينيات المظلمة، سلاحاً مرعباً في أزقة بيروت المنقسمة إلى شرقية وغربية، بفعل إفرازات حرب لبنان (1975 ـ 1990). سقط ضحايا كثر على الضفتين، لأسباب سياسيةٍ وشخصيةٍ ومصلحية. لوائح الاغتيال تضمّ أسماءً عدة، يُمكن أن يطّلع عليها كل شخص يرغب في سبر أغوار هذه الحرب واغتيالاتها. في "البيروتتين" كان القاتل مجهولاً، لا أحد يعلم هويته ولا شكله. إما ملثماً على دراجة نارية، أو سائق سيارة، أو غيره. لا دولة لبنانية في الجوار، بل تنتشر فقط في محيط المواقع الرسمية، من مجلس نيابي وسراي حكومي وقصر رئاسي، وبضع ثكناتٍ للجيش اللبناني. كان لبنان أشبه بغابةٍ يسود فيها قانون "البقاء للأقوى لا للأصلح".
لم تنتهِ هذه الحرب سوى بقرار دولي ـ إقليمي، لا بقرار مصالحة ومصارحة لبنانيين. غير ذلك كان يُمكن أن تستمرّ حتى أيامنا الحالية، خصوصاً أن مشاهد متفرّقة في السنوات الثلاثين الماضية أظهرت عدم خروج اللبنانيين من ظلال الحرب بعد. مشاهد برزت خلال محطات متفرقة في طرابلس وبيروت وصيدا وعرسال، ثم خلال الصدامات التي حصلت في أثناء تظاهرات سياسية تحولت إلى اشتباكات بالأيدي وبالرصاص، وصولاً إلى أحداث أيار 2008 في بيروت والجبل والشمال. كان اللبنانيون في كل تلك المحطات جاهزين للحرب.
خلال كل تلك المراحل، نادراً ما كان كاتم الصوت حاضراً. واستطراداً، كان الخوف أقلّ تمكّناً من الإنسان في لبنان. في الحرب، كانت الجبهات واضحة ومعروفة، وكان معلوماً أن القصف سيأتي من جهةٍ باتجاه أخرى. لا مفاجآت هنا. يمكن لك أن تهرب إلى ملجأ آمن، في حال كنت محظوظاً، حتى يتوقف القصف. أما في حالة كاتم الصوت فلن تعرف شيئاً. المُغتال لن يدرك، سوى حين تُصيبه الرصاصة، أنه كان مُطارداً ومرُاقباً، وأن هناك من كان يتتبعه فترة، مهيئاً ساحة جريمته. وستسكن الجريمة في ذاكرة الشخص أو الأشخاص الذين سيُصدف مرورهم قرب ساحة الجريمة. وبعد إتمام عملية الاغتيال، وهروب القاتل أو القَتَلَة، لن تتمكّن الدولة من العثور عليهم، لماذا؟ إما لأن المجرمين محترفون إلى درجة محوهم أي آثار لهم، أو لأنهم أقوى من الدولة، كما حصل في الثمانينيات، أي معروفو التوجهات، لكن الأجهزة الدولتية تخشى الاصطدام بهم. هنا، يُصبح الرعب مرادفاً للحياة اللبنانية: ما هي الرسالة الموجّهة في ارتكاب الجريمة والإفلات بها؟ هل سنكون التالين على لوائح التصفية والاغتيال؟
كثُرت، في الأشهر الأخيرة، عمليات الاغتيال والقتل في قرى لبنان ومدنه، من دون معرفة هوية مجرم واحد. لا دولة تكشف الخبايا ولا قضاء يلاحق أحداً. حسناً، كيف يُمكن لأي شخصٍ الوثوق بقدرة هذه الدولة على حماية مواطنيها، وإحقاق الحق، في وقتٍ يفلت فيه كل مرتكب بجريمته ولا يُعاَقَب؟ ما الذي ستفعله هذه الدولة إذا أراد بعضهم تطبيق الأمن الذاتي وتطبيق لامركزية أمنية، بصورةٍ مشابهةٍ للجزر اللبنانية المتناثرة أيام حرب لبنان؟ وبعد، ماذا عن الأخلاقيات التائهة في عوالم "السوشال ميديا"، إلى حدّ استهتار بعضهم بالجرائم واعتبارها "حتمية"، مطلقين أحكاماً مسبقة على كل ضحية، سواء يعرفونه أم لا؟ من يضع حدّاً لعملية شيطنة الأفراد تمهيداً لقطع رأسهم في وقتٍ ما؟
الواقع واضح: لا دولة في لبنان بعد. واتفاق الطائف وضع حدّاً لحربٍ أهليةٍ، لكنه لم يؤسّس لقيام الدولة. المليشيات لم تنتهِ بل امتد نفوذها وتغلغل في الهيكلية الرسمية، ناقلةً حروبها من الشوارع إلى العالم السياسي. واغتيال لقمان سليم ليس تفصيلاً، بل قتل لفكرتين. الأولى رأيه الخاص، والثانية منع أي شخص من التفكير خارج إطار المليشيات. وعملية زرع الرعب المستمرة في قلوب اللبنانيين ستؤدي إلى أمر من اثنين: إما خضوعهم وخوفهم، وهذا مبرّر، أو الانتفاضة على عقلية الحرب، مرة واحدة ونهائية.