في قدرة الناس على حمل مصائبهم

19 سبتمبر 2024

(محمد عبلة)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

هذه القدرة العجيبة والدفينة أيضاً داخل الناس، التي تمنحهم بأعجوبة القدرة على حمل مصائبهم الطارئة والمعاشة معاً، أو كما كنتُ أسمع بعض الناس يقولون شارحين الوضع ببساطة: "هيعمل أيه.. أهو شايل مصيبته". تلك قدرة تحيّرني وتجعلني أزداد معرفةً بذاتي الهشّة وقليلة التحمّل، التي تتأمل من بعيد مصائب الناس البسيطة جدّاً، وكيف أراهم بقدراتهم البسيطة تلك على ألفة وقبول بتلك المصائب الطارئة والمقيمة، والآلام أيضاً، هل إدارة الألم والمصائب أصبحت مهنةً سهلةً لديهم، وتلك من أعاجيبهم، رغم أنّ تلك الآلام والمصائب قد فاقت الحدّ.

أتأمّل نفسي وأحاول جاهداً أن أتقرّب ولو قليلاً من بعضهم، كي أتحسّس، ولو من بعيد، تلك القدرات المدهشة التي حباهم الله بها في مواجهة مصائبهم وآلامهم، هل يصاب هؤلاء بالمصائب وتقف يد الله معهم عوناً باللطف في آن واحد؟ هل يكتب الألم على الجبين ويعين الله هؤلاء بفيض مدده وصبره في مواجهة ذلك الألم في وقت واحد؟ هل الذات بعد كثرة الآلام والمصائب أصبحت محصّنةً ضدّ ذلك العالم، مهما زاد عليهم من شروره عامداً متعمّداً؟

أتأمّل أهل غزّة من سنة إلّا قليلاً، وأتأمل تنعّم الناس في البلدان كافّة (بلا حسد بالطبع) وهم هناك مع آلامهم في صبر، ما هذا الصبر؟ ... صعب أن يقول الإنسان في محنة أيّ إنسان: "أنا لا ناقة لي هناك ولا جمل"، إلّا غِلاظ القلوب بالطبع، فكتب جفاء القلوب موجودة في كلّ زمان ومنهج، وبالطبع على قارعة الطرق. وكلّ كلب يستطيع أن ينبح حتّى وإن كان المقصود هو القمر نفسه الذي ينير السماء، فما بلك بمذيع في غرفة مكيّفة ويتقاضى الملايين في آخر كلّ شهر. هل سند الله رغم قلّة الحيلة يدفع الأرواح دفعاً إلى التجمّل بذلك الصبر العجيب؟

يجب ألا نستهين بأصحاب المحن، هل التنعّم يجعلنا كائناتٍ هشّةً وقابلةً للاندثار كالممالك التي اندثرت قديماً، أو تلك التي في طريقها إلى زوال بريقها على الأقلّ؛ أقف كالعاجز عن الفهم أو حتّى الاقتراب من الفهم، كيف يتعامل الموجوع مع وجعه اليومي، والضعيف مع ضعفه، هكذا لسنوات؟ يعيش هكذا في بساطة طلوع الشمس وسخائها، ويربّي أولاده وشجيراته ونخيله وزيتونه وحيرته من دون أن يكفر بهذا العالم؟

لا أجلس في برج عاجي كما كان يُقال عن توفيق الحكيم، ولا أتأمّل ذلك الغدير الصافي أسفل ضيعتي وتشرب منه غزالاتي ونعاماتي وعصافيري الملوّنة، بل أكنس بيدي تحت أرجل حمامي كلّ صباح، ولكن أحتار في كيفية إدارة هؤلاء الناس لآلامهم في كلّ صباح وفي كلّ شهر أكثر بشاعة من سابقه، كيف يتعايش الحزين مع حزنه، والخائف مع خوفه، والمديون بلا أمل مع ديونه، والمحتاج مع حاجته، والمريض مع مرضه، والمجروح مع جروحه، وخاصّة لو وصلت الجروح الروح، وصاحب المرض العُضال مع مرضه رغم رؤيته للنهايات التي أوشكت وأكّدت دلائلها، وكيف يعيش صاحب الأمل الشحيح على أمل تغير الحال مع فتيلة الأمل تلك، وهو يدرك أنّ ذلك الأمل القليل يبتعد عنه بعد الشمس، وفي كلّ صباح تراه يأخذ بقاياه ويمشي ناحية هذا الدكّان، كي يطلب عملاً أو يسأل عن ابن له لم يعد إلى المنزل من أسبوع أو ابنة مشت كي تلمّ الزبالة مع آخرين ولم تعد، وقيل إنّها تزاول العمل نفسه في "البدرشين"، رغم أنّه لم يزعلها ولم يقسُ عليها. أشياء صغيرة وقاسية أتأملها وهي ساكنة في عيون أصحابها رغم تكتّمهم على آلامهم أو على مصائبهم، وقد تراهم خفافاً أحياناً في مقهى مع الشاي في حديث طويل عن الفئران التي زاد عددها وتتعارك فوق أكوام الزبالة مع القطط، وأحياناً يجادلون في هدف "شيكابالا" رغم أنّه يُقلُّ أدبه على الجماهير بينما يتعثّر حظّه، يطلب الآخر "حجر تفاح"، ويتحدّث عن الحَرّ الذي طال هذه السنة، يسكت الثاني مُداعباً ذلك "الموبايل" الصغير، الذي بالكاد يبدو بين أصابعه، وبجواره فوق الطاولة حزمةَ ملوخيّة خضراء.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري