في مأزق الشمال السوري
ما ظهر من مؤشّرات وتداعيات في جولة اقتتال فصائل الشمال السوري في ريف حلب الشمالي، منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، أسقط آخر الأوراق التي كانت تُدار وتتداول بين الفصائل وداعميها، وأصبح التقييم النهائي لها، من صنّاع القرار في أنقرة، عدم القبول بالوضع الحالي، ولا بد من التغيير، وإعادة النظر في كامل إدارة المنطقة الشمالية، في مجالات الإدارة المدنية والمعابر والملفات الأمنية والمؤسسات العسكرية، إذ يجرى وضع برامج مُحكمة تكون المركزية فيها عنواناً جديداً للمرحلة المقبلة، ذلك لأنّ ما جرى خلال فضّ الاشتباك الفصائلي وبعده أظهر مدى العجز والشلل التام لما تسمّى حكومة مؤقتة، وأجنحتها المفقودة من وزارات دفاع وعدل وقضاء وغيرها من كياناتٍ غابت عن مشهد الاقتتال، بل إنّ ما جرى يعد فضيحة ونكسة مدوّية لمسيرة عمل استمرت سنوات، من دون أي إنجازات تذكر. على العكس، لاحظ الجميع حجم الشرخ والانفصال عن الواقع بين خطابات الساسة في الحكومة المؤقتة والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، مقارنةّ مع بيانات الفصائل المقتتلة وأحلافها، وبياناتها التي كشفت عن مدى تمسّك جميع القادة بمناصبهم الشخصية على حساب مصلحة الجميع، حتى إن اضطرّ الأمر لسفك الدماء. فعلياً، كانت جولة الاشتباك في عفرين والباب مختلفة عن سابقاتها من الجولات، وكشفت مدى ارتباط بعض الفصائل والقادة بأجهزةٍ دولية، بعد تواتر المعلومات عن تواصل بعض قادة فصائل الشمال بجهاتٍ لم تكن تركيا على علم بها، كذلك ما جرى من تحالفاتٍ بينيّةٍ بين فصائل "الجيش الوطني" مع هيئة تحرير الشام كشف عن حجم الاختراق والتواطؤ بين الفصائل لتأمين مصالح شخصية، وإنْ كانت على حساب أهل المنطقة، وبعد الفضيحة أخيرا لكل من فصائل الحمزات والعمشات وأحرار الشام بتنسيقها المسبق مع زعيم "دولية إدلب"، أبو محمد الجولاني، يستغرب بعضهم كيف لتلك الفصائل أنها باقية، ومن دون محاسبة على ما اقترفت من انتهاكات وصفقات فساد وتجارة غير شرعية، كانت تجرى منذ سنوات وبعلم الجميع، ولكن أحدا من المدنيين لم يكن يمتلك الجرأة للحديث بشكل علني، بسبب الخوف من سطوة الفصائل التي تمتلك كل مقوّمات القمع وتكتيم الأفواه بشكلٍ لا يختلف عن نظام الأسد.
امتثل الجولاني لقرار الانسحاب من المناطق التي سيطر عليها، بعد قرار تركي حازم
نقطة أخرى لا تزال موضع جدل ونقاش في الأوساط السياسية والعسكرية السورية، بشأن موقف تركيا ودورها الذي جاء هذه المرّة موارباً، قُبيلَ إجبار الجميع على وقف النار، كانت تركيا صامتة، إلى أنّ ظهرت تقارير دولية تُشدّد على رفضها تمدّد هيئة تحرير الشام إلى عفرين، كونها (الهيئة) مصنّفة على قوائم الإرهاب حتى من تركيا.
بشكل مفاجئ، امتثل الجولاني لقرار الانسحاب من المناطق التي سيطر عليها، بعد قرار تركي حازم جاء على هامش سجال "إعلامي"، قِيل عنه أنّ الولايات المتحدة هدّدت الأخيرة بوقف زحف هيئة تحرير الشام وإلا ستدخل ذراعها، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على خط الصراع، بحسب معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، بطبيعة الحال، لم يكن هناك مصدر رسمي تركي أو أميركي قد أكّد، بشكل مباشر، تبنّيه إيقاف المعركة، أو إلزام الجولاني بالانسحاب. لكن بجميع الأحوال ما جرى أحرج تركيا على وجه الخصوص، وربما أخّل بمشروعها، الذي كانت تعمل عليه منذ مدّة، لتوحيد المناطق الخاضعة لنفوذها مع مناطق إدلب، في جوانب الإدارة المدنية والأمنية، ولعل السبب هنا مردّه وقف عمليات الاختراق الأمني من عدوها "قسد" عن طريق المعابر مع مناطق الحر المتخاذلة معها، والتي سبّبت لسنوات ضرراً أمنيا ومهدّدات لكل الشريط الحدودي التركي، والأهم هو رغبة تركيا في إنهاء حالة الفساد والتشرذم التي تقودها الفصائل التي تدعمها، قبل اقتراب موعد الانتخابات المصيرية في منتصف العام المقبل.
وبعيداً عن نقطة الجدل في موقف هيئة تحرير الشام وحساباتها، وما حصلت عليه من مكاسب في جولة الحرب أخيراً، بدا واضحاً أنه نفذَ أمراً خرج من جهةٍ ما، وهو ما ينفي كل الكلام والسرديات التي تناولها بعضهم في استقلالية قرار الجولاني، وأنه أراد بتحرّكاته أخيرا فرض أمر واقع على تركيا. ما يهمنا الآن ليس الغرق في مشروع الجولاني، فبعد التحرّك الخارجي، أعيد "الفيتو" على الأخير، وبدأ الحديث محصوراً في مصير مناطق النفوذ التركي والفصائل التي تدعمها.
تمرير مشروع كامل تكون المركزية والمرجعية فيه لأنقرة، لن يُكتب له النجاح من دون إجراء تغييرات جذرية
خلال اليومين الأخيرين، جرت اجتماعات موسّعة في أنقرة وعلى الحدود السورية التركية عند مخيم أطمة، لعسكريين وسياسيين، بإيعاز تركي خالص، جرى الحديث عما تصدّر المشهد السوري أخيرا بشأن مشروع الدمج الفصائلي تحت قيادة واحدة، إلى جانب الحديث عن مركزية إدارية للمعابر والاقتصاد والأمن، وعزلها عن الأمور الإدارية والمدنية. ظهرت مبادرات ومقترحات كثيرة، تصدّرت وسائل الإعلام، ثم لم يظهر شيء رسمي، كما لم يرشح عن اجتماعات أنقرة شيء مؤكّد سوى أنّ المنطقة ستدخل في مرحلةٍ جديدة ضمن مشروع أعلن عنه رئيس الحكومة المؤقتة، عبد الرحمن مصطفى، لكن أليات المشروع وخطواته ومحدّداته لم تظهر بعد. الجميع ينتظر ما ستقوله تركيا، بعدما أبدلت مشروعها بآخر، وهنا ستكون العوائق والتحدّيات حاضرة أمامها في الأيام المقبلة، فلو افترضنا أنّها تمتلك كل أدوات الهيمنة على السياسيين والعسكريين، فهي لن تنجو من أخطاء وقعت فيها عن تحييد القيادات الفاسدة، ومن ثبت فسادهم وتخاذلهم، فتمرير مشروع كامل تكون المركزية والمرجعية فيه لأنقرة، لن يكتب له النجاح من دون إجراء تغييرات جذرية على الأقل على صعيد الفصائل.
بمعنى آخر، تكمن معضلة الشمال في محاولة تركيا تمرير مشروع جديد من دون إجراء تغييرات جذرية لقيادات الفصائل، وحل بعض منها وتفعيل بند المحاسبة، فإن لجأت إلى وضع رتوشٍ تجميليةٍ تتناسب، بهدف كسب الوقت لتمرير الاستحقاق الانتخابي، فهي بذلك ستزيد، وستكون طرفاً، من المشكلة الماثلة. ألمحت بعض المصادر إلى أنّ تركيا قد تُعطي إيعازاً للجميع لطيّ صفحة الماضي والخلافات، وامتثال الجميع للخطة المركزية الجديدة، ومعنى ذلك أنّ منتهكي حقوق الإنسان والفاسدين، كأبو عمشة وغيره، سيكونون شركاء في حركة تصحيحية ستقودها تركيا، وبأدوات محليّة لن ترضى بالسهل الخروج من المشهد وإفساح المجال لغيرها من الشرفاء السوريين... حينها ستنطبق علينا مقولة "كأنك يا أبو زيد ما غزيت".