في ما يشبه أوجاع الكتب
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
هناك أشخاص يمتلكون مكتبات واسعة في بيوتهم، وأصحاب المجالس الأدبية منهم، وهم عادة من محبّي الأدب أو مزاوليه، تحيط بمجالسهم أرفف عريضة من الكتب. وقد سمعتُ عن مكتبة عباس محمود العقّاد، صاحب عبارة "أحبّ الكتب لأنّ حياة واحدة لا تكفيني" أنّه كانت تحيط مجلسه المفتوح على الزوّار والمريدين، مكتبة كبيرة. وحين ذهب مرّة إلى السودان، افتقدها، وكان حينها بصدد تأليف كتابه "عبقرية عمر" لكنّه، بفضل الكتّاب السودانيين هناك، استطاع أن يعثر على ضالّته من المراجع.
يقول أبو حيان التوحيدي عن نهم جامع الكتب: "وهل جامع الكتب إلّا كجامع الفضة والذهب، وهل المنهوم بها إلّا كالحريص الجشع عليهما؟". وردت هذه العبارة في معرض ردٍّ اعتذاري للتوحيدي على حرق مكتبته التي تضمّنت جزءاً من مؤلفاته، باحثاً في ذلك عن مبرّر يدفعه إلى التخلص منها إلى الأبد من طريق حرقها. وفي رسالة الاعتذار الطويلة تلك، أورد أمثلة لعلماء قبله تخلّصوا من كتبهم، إما بدفنها أو إغراقها أو تلقيمها للنار، وكان أغربهم ذلك الذي حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحها فيه وسدّ بابه.
لدينا في عُمان مكتبة الأديب أحمد الفلاحي التي تملأ أكثر من غرفة من غرف بيته، بل إنّه وضع لها غرفاً حتى فوق السطح. وقد ظلّ الفلاحي يجمع الكتب منذ يفاعته، ولا يمرّ عليه معرضٌ من معارضها الدولية إلّا ونراه يجرّ خلفه عربةً حديديةً كبيرةً يساعده في جرّها أحد أقاربه أو عامل استأجره ساعة زمان لهذا الغرض. وقد رأيته مرّة في معرض الشارقة للكتاب تتبعه عربة كتب كبيرة تدور معه بين أروقة المعرض. وقد عُرف عن الفلاحي كذلك اقتناؤه الكتب هدايا لأصدقائه ورفاق مجلسه الأدبي في مدينة الخوير بمسقط.
مع صغر البيوت الحديثة، أصبح للكتب وضع حرج، فكثيراً ما تصير عبئاً ومصدر غضب لربّات البيوت، وقد تتحوّل الكتب في بعض البيوت إلى ضرّة مجازية صامتة للزوجة، خصوصاً حين يكون الواحد مضطرّاً إلى الإقامة في أكثر من بلد. شخصياً، ما زلت أضع كتباً كثيرة في بيوت أصدقائي. ملأتُ مرأب سيارة الصديق المغربي عبد العزيز أمزيان بكراتين الكتب، من دون أن أجد الفرصة لشحنها. ولا أظنّ أنّ ذلك سيحدُث قريباً. وسيكون الأمر محرجاً حين يهديك صديقٌ كتابه الخاص، ثم تتركه وديعة عند صديق، على أمل أن تزوره وتأخذ منه كتبك، فيسألك ذلك الكاتب بعد فترة قصيرة عن رأيك بكتابه، ولن تجد عبارة أقرب للرد سوى أنّك ستتفرّغ لقراءته قريباً.
أصبح أصدقاء يكتفون بالكتب الإلكترونية (بي دي أف) بديلاً من الكتب الورقية. وهناك من لديه مكتبة كاملة في بطن حاسوبه، وهو بذلك يتخلص من عبء شراء أيّ كتاب. وعلى الرغم من ذلك، لا بدّ أن تنمو الكتب كشجرة متعدّدة الموارد، فالأصدقاء اعتادوا أن يُهدوا كتبهم بعضهم لبعض، وهذا من التقاليد الجميلة.
هناك، في بلدان أوروبية، ميادين عامة للكتب المستعملة. يمكنك أن تقتني منها الكتاب الذي تشاء، ومن طريق التبادل، أي أن تذهب مثلاً إلى ذلك الميدان، ولديك عشرة كتب، فرغت من قراءتها، ثم تقتني بدلاً منها كتابين ستقرأهما في ذلك الأسبوع. وبهذه الطريقة، ستتخلص مما لديك من كتب زائدة تخلصاً بطيئاً ومفيداً، وذلك بتعميم قراءتها لدى أكبر عدد من القرّاء. ربما ينفع هذا الأسلوب أكثر مع القرّاء العموميين. أما الباحثون والدارسون والنقاد، فلا بدّ أن تكون لديهم مكتباتهم، نظراً إلى طبيعة علاقاتهم المرجعية مع الكتب، إذ يضطرّ الباحث مع كلّ دراسة أو مقال أو بحث محكّم إلى الرجوع إلى مقتنيات مكتبته الخاصة. ومنهم من يشكّل اندثار مكتبته أو ضياعها ألماً نفسياً وشتاتاً يصعب عليه لمّه ونسيانه، كما حدث مع الناقد العراقي عبد الله إبراهيم الذي حدّثني مرة عن فقدانه، بسبب الحروب في العراق، مكتبة هائلة في الموصل، تضمّ أندر الكتب وأمهاتها التي سعى لجمعها عقوداً. وحين اطّلعت على صورها وما آلت إليه، عرفت أيّ مكتبةٍ فقد، وهو أمر يصعب تعويضه بالنسبة إلى باحث وناقد دؤوب ومتنوّع.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية