في محبّة محمّد الأشعري

09 نوفمبر 2024

محمد الأشعري يتسلم من محمد بن عيسى شعار تكريمه في منتى أصيلة (العربي الجديد9

+ الخط -

استمع إلى المقال:

شيءٌ من المشقّة في محاولة الكتابة عن محمّد الأشعري (1951)، كاتباً ومثقّقاً وإنساناً، إذا ما أرادت إحاطةً به. ليس فقط لأن مشاغلَه ومناشطَه وأوجه حضورِه في بلده (المغرب) تعدَّدت وتنوَّعت، بل أيضاً لأن له في كل واحدةٍ منها أكثرَ من وجهٍ ووجهة. لا يكفي القول إنه الشاعر والروائي والقاصّ والصحافي والوزير والنقابي والحزبي والسجين السابق، ففي مجموعاته الشعرية الإحدى عشرة (1978 – 2024) سافر في تنويعات القصيدة المركّبة والجديدة، في قصيدة النثر والإيقاع والتفعيلة. وفي مجموعتيْه القصصيّتين (1992 و2024) ورواياته الست (1996 – 2021) طاف في تجاريب السرد ومبانيه، وجال في خيارات تناوب الساردين وأصواتهم. وفي عمله وزيراً (للثقافة والاتصال، ثم للثقافة 1998 – 2007) كان لافتاً تصريحه فيما بعد إنه أخطأ في قبوله الوزارة في المرحلة الثانية، بدءاً من نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، لأسبابٍ شرَحها. وفي حضوره الحزبي، معلومٌ أنه كان عضواً في المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وبحيثيّته هذه أصبح وزيراً، غير أنه، لاحقاً، أعلن أنه غسل يديه من الحزب، وصار يراه يتدهور، ثم خفّف من غضبته تلك، وأوضح أنه انفصل عن الفعل الحزبي، ولم يُغادر العمل السياسي كما يتصوّره. وفي الصحافة، إذ عُرف بعمله في الشقّ الثقافي منها، محرّراً ومعلقاً، فإنه خاض في الشأن العام على اتّساعه. وجاء طيّباً منه أنه جمع مقالات عموده شبه اليومي "عين العقل" في صحيفة "الاتحاد الاشتراكي" (ديسمبر/ كانون الأول 1990 – فبراير/ شباط 1998) في كتاب (741 صفحة)، أزعم هنا إن له (وهو بين يديّ في هذه اللحظة) أهميّته في تنوير قرّائه بوقائع مغربية وعربية وعالمية في زمنها، وفي التدليل على أن الكتابة الصحافية المثقلة براهنيّتها قد تتوفّر على أسباب الفائدة في قراءتها في غير زمنها، إذا اجتمعت في كُتّابها ملكاتُ الصنعة والتجويد والانتباهات والحذاقة. وأظن أن الأشعري من هؤلاء، وربما ساعده أن الصحيفة في تلك الغضون كانت في ضفّة المعارضة. أما النقابي في شخص صاحب "جدران مائلة" (جديد إصداراته الشعرية أخيراً)، فليست منسيةً حيويّة اتحاد كتّاب المغرب، واستقلاليّته، في ولايات رئاسة الأشعري الثلاث له، وبرفقة زملائه. وبشأنه سجيناً سياسيّاً، لم يكتُب عن تلك المحطّة في شبابه، وإنْ جاء عليها في معرض إفادته منها في سياق مساره الخاص مثقّفاً صاحب رأي، في ضفة الدفاع عن الحرّيات العامة والديمقراطية والخيارات الفردية الوطنية. وإذ تدور بعض وقائع روايته "علبة الأسماء" (2015) في سجن لعلو في الرباط، فهو السجن الذي أمضى فيه مرّات اعتقاله.
مناسبة هذه الاستعادات هنا أن منتدى أصيلة في دورته الخامسة والأربعين التي اختُتمت أخيراً احتفى، في فعاليته "خيمة الإبداع"، بمحمّد الأشعري، فشارك في تكريمه 16 ناقداً ودارساً وأديباً مغربياً (والروائية الفلسطينية ليانة بدر) بتقديم قراءاتٍ ومطالعاتٍ وشهاداتٍ وانطباعاتٍ في فضاءات الأشعري الإبداعية والإنسانية والثقافية العامة، اجتمعت في كتابٍ من إعداد وتنسيق عبد الإله التهاني. وإذ أبهجنا، نحن حضور هذا النشاط، في بعض هذه المساهمات ما يمكن أن أسمّيه خيار الذائقة فيها، وليس لغة المعمل النقدي أو الأكاديمي، فإن في الوُسع أن يقال إن محبّة محمّد الأشعري، والإعجاب بتعدّده، كانا الدافع الأهم في التداول الذي جرى بشأن إصداراته الشعرية والسردية (له أيضاً مسرحية واحدة بالعامية المغربية كما علمنا). وهذا طبيعيٌّ في مناسبة تكريم، لا مناسبة درْسٍ وتحليل. ولعل هذا ما جعلنا لا نسمع مؤاخذةً نقديةًً على موضعٍ هنا أو هناك في روايةٍ أو نصٍّ شعري للكاتب الذي لا يُغفل هنا عن نقودِه (كتاباته النقدية وليس أمواله) في الفنون البصرية والتشكيلية، وهو الذوّاقة المثقف من قبل ومن بعد.
بدا في محلّه، وظاهراً في المناسبة، في واحدة من قاعات مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية في أصيلة (وليس في خيمة)، قول أمين عام مؤسّسة منتدى أصيلة، محمّد بن عيسى، في مختتم الفعالية، إن تكريم الاشعري اختيارٌ "ذو بعدٍ ثقافيٍّ وأخلاقي، تكرّم في شخصه قيم الإبداع من جهة ومبادئ الالتزام الفكري من جهة ثانية". وكانت لافتةً إشارة بن عيسى إلى أن شخصيّة الأشعري تخلو من اللؤم ... ثمّة، إذن، لؤماء بين أهل الثقافة والإبداع، ليس صاحبنا منهم، وهذه فضيلةٌ فيه.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.