في مسار سياسة قطر الخارجية إلى الاستقلالية
يضع مروان قبلان كتابه "سياسة قطر الخارجية: الاستراتيجيا في مواجهة الجغرافيا" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، بيروت، 2021) في سياق "مشروع أكبر يسعى للتوثيق والتحليل والفهم لمرحلة من أصعب المراحل التي مرّ بها المشرق العربي وأهمها خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، ولصراع الإرادات الإقليمي والدولي الأشد عنفاً الذي شهده منذ تشكله"، والغاية منه تشكيل منطلق "نحو فعل سياسي واع"، يساعد في "الخروج من المأزق الصعب الذي يعيشه عالمنا العربي".
ويبدو أنه تناول في بداية مشروعه دولة قطر وسياستها الخارجية، بوصفها نموذجاً أو ظاهرة تستحق الاهتمام والدراسة، فهي دولة صغيرة غنية جداً بمواردها الطبيعية، وبالتحديد الغاز الطبيعي، ولديها نزعة نحو استقلالية سياساتها، والقيام بدور إقليمي فاعل، في بيئةٍ مجاورةٍ عدائية، أو على الأقل غير صديقة، حيث ترى بعض دول جوارها الإقليمي أن سياساتها تتعارض مع مصالحها وتوجهاتها، لذلك لجأت قطر إلى تبنّي "استراتيجيا متعدّدة الأبعاد للحفاظ على استقلالية سياستها الخارجية"، في مواجهة تبعات الجغرافيا التي "حشرتها" بين دولتين كبيرتين متنافستين على السيطرة الإقليمية، إيران والسعودية.
إذاً، دولة صغيرة مثل قطر، ابتلتها الجغرافيا بلعنة التجاور مع دولتين كبيرتين متنافستين في إقليم مضطرب وغير مستقر، فإن من الطبيعي أن يكون هاجسها الأهم والأساسي في جميع توجهاتها أمنها ووجودها، وهو من يحدّد ليس فقط سياستها الخارجية، بل مجمل سياساتها واستراتيجياتها ونهجها. ووفق هذه الفكرة المحورية، يجري تناول دور قطر وسياستها الخارجية، من خلال "إبراز الاستراتيجيات التي اتبعتها النخبة الحاكمة القطرية خلال العقدين الأخيرين للتعامل مع التحدّيات البنيوية التي واجهتها"، وبغية تحقيق الاستقلالية المنشودة في سياستها الخارجية في محيط إقليمي لا يتيح هوامش تحرّكاتٍ واسعة.
الشيخ حمد "جاء بمشروع طموح لبناء دولة حديثة مستقلة في سياستها الخارجية، تضطلع بدور إقليمي يبعدها عن توجهات السياسة السعودية"
ويستند مروان قبلان في كتابه إلى منهجيةٍ حديثة، تقوم على التحليل المنظومي، وعلى جملة من مقولاتٍ نظريةٍ بارزة في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، من أجل توضيح و"تفسير علاقة الفاعل بالبنية"، التي ينحاز فيها لصالح الفاعل على حساب البنية، وذلك على خلفية ترجيحه دور النخبة بوصفها الفاعل الذي قام بتحديد خيارات واستراتيجيات قطر وسياساتها الخارجية، إضافة إلى تأكيد دور الإستراتيجيات التي تضعها النخب الحاكمة من أجل تخفيف إكراهات و"قيود البيئة والجغرافيا وتطويعها لتحقيق أهداف السياسة الخارجية"، وهذا يتطلّب إتاحة أكبر قدر ممكن من المقاربات النظرية، من أجل شرح السياسة الخارجية ضمن جدلية الفاعل والبنية، بعيداً عن المنحى التاريخي ذي المنطلق السببي في دراسة العلاقات الدولية، والتي يحصرها في جملةٍ من الأحداث التاريخية المتعاقبة.
وإذا كانت السياسة الخارجية لأي دولة نتاج توجهات النظام السياسي الحاكم فيها، وانعكاسا لتركيبة السلطة فيها وطبيعتها، والديناميات الداخلية التي تنتج جميع السياسات، إلا أن المؤلف لم يتناول طبيعة النظام وتركيبة السلطة في قطر، على الرغم من إقراره أن السياسة الخارجية هي "حاصل التفاعل بين مجموعة من العوامل والبنى الداخلية والخارجية التي ينتج منها مجموعة من الخيارات والسياسات والقرارات التي يتخذها صانع القرار، وتتسم بالعقلانية، وتهدف في حدها الأدنى إلى ضمان بقاء الدولة والحفاظ على استقلالها، في حين تسعى في حدها الأعلى إلى الهيمنة في إطار نظام إقليمي أو دولي معين". فضلاً عن أنه يلفت الانتباه إلى أن قطر عادت، "مع انتقال السلطة من الشيخ حمد بن خليفة إلى ابنه الشيخ تميم بن حمد، إلى التركيز أكثر في الشأن الداخلي، فخفّت حدة نشاط سياستها الخارجية في أكثر الملفات الإقليمية التي كانت مؤثرة فيها".
ويكتفي قبلان بذكر النخبة الحاكمة من دون تبيان ماهية هذه النخبة أو حتى وصفها والتعرّف على كيفية صنع القرار في دوائرها، ولا يُخفي ميله إلى إبراز الجانب الشخصي، إذ غالباً ما يتم الحديث بتواتر كبير في الكتاب عن شخصية محورية أو بالأحرى بطل أو زعيم تاريخي هو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الذي "مثل وصوله إلى الحكم، في حزيران/ يونيو 1995، نقطة تحوّل في تاريخ قطر، لا يوازيها إلا حصولها على الاستقلال في عام 1971"، وذلك لأن الشيخ حمد "جاء بمشروع طموح لبناء دولة حديثة مستقلة في سياستها الخارجية، تضطلع بدور إقليمي يبعدها عن توجهات السياسة السعودية"، لكن افتراق التوجهات والسياسات واختلافها أفضى إلى خوض صراع جيوسياسي واسع بين كل من قطر والسعودية على امتداد مساحات كبيرة في المنطقة العربية، وأفضى إلى اندلاع أزمة عام 2014، ومن بعدها أزمة عام 2017، التي أعلن عن انتهائها أخيرا بعد المصالحة الخليجية في قمة العلا في يناير/ كانون الثاني 2021.
يرفض قبلان وصف علاقة قطر مع الولايات المتحدة بالتبعية، مفضلاً وصفها بعلاقة "حليف بطعم الخصم"، وخصوصا في مرحلة الرئيس دونالد ترامب
وفيما كانت خيارات قطر في سياستها الخارجية بعد استقلالها تذهب في اتجاه الدخول في "علاقة تبعية للمملكة السعودية" بهدف حماية نفسها من إيران، وخصوصا بعد قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، إلا أنها غيرت اتجاهها نحو الدخول "في علاقة حمائية مع الولايات المتحدة بتوقيعها اتفاقية دفاعية عام 1992"، ثم استضافت "القوات الأميركية التي طلبت منها الرياض مغادرة قاعدة الأمير سلطان في الظهران، بعد أن ساءت العلاقات بين الطرفين بسبب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001". وباتت قطر، منذ بداية العام 2003، موقعاً لأكبر قاعدتين أميركيتين خارج أراضي الولايات المتحدة، العديد الجوية، التي يوجد فيها 11 ألف عسكري أميركي و120 طائرة مقاتلة، والسيلية التي توصف بأنها من أكبر قواعد تخزين السلاح خارج الأراضي الأميركية.
ويرفض قبلان وصف علاقة قطر مع الولايات المتحدة بالتبعية، مفضلاً وصفها بعلاقة "حليف بطعم الخصم"، وخصوصا في مرحلة الرئيس دونالد ترامب، لكنه على العموم يميز بين مختلف جوانبها ومراحلها، مرجعاً جذورها إلى محاولة "تأمين قطر نفسها من تهديدات السعودية وضغوطاتها"، لكن "على الرغم من استضافتها القاعدة الأميركية، وتوقيع اتفاقية دفاعية مع واشنطن، يصعب القول إن قطر كانت تتبنّى سياسة تبعية في علاقتها بواشنطن"، فواقع الأمر يظهر أن قطر "تحالفت مع الولايات المتحدة ومع خصومها"، و"تبنّت سياسات خارجية مؤيدة لواشنطن ومتعارضة معها في آن معاً، خاصة بعد عام 2006"، حينما اقتربت كثيراً مما سمي "محور المقاومة والممانعة" في الفترة 2006 - 2010 لموازنة الضغط السعودي"، وعنى ذلك الاقتراب من إيران، حيث أن "كل خطوةٍ كانت تقترب فيها قطر من إيران كانت تبتعد بالمقدار نفسه عن السعودية".
ومنذ الغزو العراقي للكويت عام 1990، بدأت قطر بالبحث عن حلول لمعضلتها الأمنية، "تحفظ بقاءها في وجه التهديدات المتفاقمة التي تواجهها في محيطها الإقليمي، خارج إطار مجلس التعاون"، الخليجي، ثم أخذت "تفكّر في نهج خارجي مستقل"، وفي الوقت نفسه، "تحاول أن تتبع نهج التوازن في علاقتها بجاريها الكبيرين السعودية وإيران لتحقيق أمنها"، وذلك في إثر إخراج العراق من المعادلة الإقليمية بعد حرب تحرير الكويت عام 1991. وبالنسبة إلى قطر "لم تعد السعودية ضمانةً أمنية غير كافية فقط، بل تحوّلت النظرة إليها بوصفها تمثّل تهديداً أيضاً"، وذلك "بعد أن كسر العراق قاعدة عدم مهاجمة دولة عربية دولة عربية أخرى". كما أن "إيران مثلت عامل قلق آخر أيضاً"، لأن قطر كانت "تشعر بقلق مستمر من سياسات إيران التي تتشارك معها في واحدٍ من أكبر حقول الغاز في العالم"، بالنظر إلى أن لدى إيران مشروعا قوميا ودينيا توسعيا، ولا يخفى على أحد سعيها "إلى الهيمنة في إطار مشروع إقليمي، وتعمل على تصدير نموذجها وفرض نوع من الحماية والتبعية على الأقليات الشيعية الموجودة في دول الخليج العربية".
يحصر مروان قبلان استراتيجيات السياسة الخارجية القطرية في خمس نقاط
غير أن سعي قطر إلى حل معضلتها الأمنية اقترن بسعيها "إلى تأدية دور على مستوى الإقليم والحصول على اعتراف بهذا الدور"، لكن ذلك كله لم يتحوّل إلى "استراتيجية عليا للدولة في مواجهة التهديدات الخارجية، ووسيلة للحفاظ على استقلالها بعيداً عن التبعية لأيٍّ من جاريها الكبيرين، ولم يبدأ إلا مع وصول الشيخ حمد بن خليفة إلى السلطة"، الأمر الذي يعتبره قبلان تأكيداً على "دور النخبة" أو "الفاعل في تحديد خيارات قطر الخارجية وسياساتها الإقليمية، والأهم من ذلك الاستدلال على أنّ مهارات النخبة وقدراتها السياسية والاستراتيجيات التي استخدمتها أدّت دوراً كبيراً في تحييد عوامل البنية، وقيود الجغرافيا، لمصلحة القيام بدور إقليمي أكبر"، حيث تبنى الشيخ حمد مزيجاً من استراتيجيات دفاعية وهجومية نشطة، قامت على إنشاء توازنات وبناء تحالفات، واستخدام أدوات القوة الناعمة المتاحة؛ من وساطة لحل النزاعات ووسائل إعلام وثقافة، و"مساعدات مالية وأعمال خيرية وإنسانية ودبلوماسية عامة، ورياضة، وإنشاء شراكات واستثمارات عالمية لجعل قطر جزءاً من النظام الاقتصادي العالمي، وتحويلها إلى مركز لا غنى عنه لصناعة الغاز المسال في العالم، وإنشاء علاقات بقوى وكيانات محاصرة أو منبوذة دولياً، حيث تغدو قطر والحاجة إلى دورها الناشط والفعال، السياسي والاقتصادي والإعلامي، من أهم أدوات الحفاظ على استقرارها".
ويحصر مروان قبلان استراتيجيات السياسة الخارجية القطرية في خمس نقاط: الاستقلال المالي وبناء مكانة في سوق الطاقة الدولية، صناعة ذراع إعلامية مؤثرة، توطيد العلاقة مع واشنطن، التأسيس لدور الوسيط في النزاعات، موازنة العلاقة مع كل من السعودية وإيران. وقد مثّل الإعلام، وخصوصا قناة الجزيرة، بالنسبة إلى قطر أهم أسلحتها، وكان له الدور الأكبر في جعل قطر لاعباً هاماً في السياسات الإقليمية، وفي لفت الانتباه إليها على الساحة الدولية.
مساعي قطر الهادفة إلى تبنّي سياسة خارجية مستقلة، والقيام بدور إقليمي فاعل، واجهت على الدوام واقعاً جيوسياسياً لا تستطيع تغييره أو التحكّم به
وظهرت أهمية وسائل الإعلام مع اندلاع الثورات العربية التي انحازت قطر إلى دعمها، مستغلة "فرصة انقضاض المجتمعات العربية ضد نظم حكمها الاستبدادية، للمساعدة في إعادة بناء نظام إقليمي عربي، تتبوأ فيه دوراً محورياً من جهة، ويمكّنها من جهة أخرى من مواجهة معضلتها الأمنية تجاه جارتيها الكبيرتين: السعودية، عبر المساهمة في قيام نظام صديق في مصر، وإيران من خلال دعم إقامة نظام حليف في سورية". واعتمدت في موقفها على جملة من العوامل، التي يجدها قبلان في "قوة المد الثوري العربي"، وعلاقة قطر مع "القوى والتيارات الإسلامية الوسطية التي بدت مرشحةً أكثر من غيرها للوصول إلى السلطة في دول الثورات العربية؛ بسبب قدراتها التنظيمية الكبيرة وضعف خصومها". كما استندت في موقفها "إلى علاقتها بتركيا التي شاركتها السياسة نفسها في سورية ومصر تحديداً، والموقف الأميركي الذي بدا مستعدّاً للقبول بحكم الإسلاميين ومسايرة الإرادة الشعبية".
ما يريد قوله مروان قبلان في هذا الكتاب، والذي يكرّر قوله أكثر من مرة، إن مساعي قطر الهادفة إلى تبنّي سياسة خارجية مستقلة، والقيام بدور إقليمي فاعل، واجهت على الدوام واقعاً جيوسياسياً لا تستطيع تغييره أو التحكّم به، لكن نخبتها اكتشفت أن بإمكانها "ابتداع استراتيجيات من وحي التقدم الكبير في التكنولوجيا والأفكار والقوة الناعمة لتعظيم نقاط قوتها وتقليل نقاط ضعفها المتمثلة بوجودها بين قوى إقليمية أكبر منها". وقد "استفادت النخبة القطرية في إطار سعيها للحفاظ على استقلالها من المزايا التي تتيحها طبيعة النظام الإقليمي الذي تعيش فيه، والمتمثلة بإمكانية الاستفادة من التناقضات الكبرى بين أقطابه، ومن قوة المقاومة الذاتية التي يبديها هذا النظام لهيمنة قوة إقليمية واحدة عليه أو امتلاكها من موارد القوة ما يخل بتوازناته". لكن ذلك لا يعدم وجود تحديات عديدة تفرزها المتغيرات والتفاعلات الإقليمية والدولية، ويمكنها التأثير على توجهات وسياسات الدول وتغير من أدوارها، خاصة في ظل سياسات الانكفاء والانسحاب التي تنفذها الولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.