في مفارقات المجزرة
تجرّ الحروب المآسي على الناس. كان الحال دائماً هكذا، وكان الحال دائماً أن الناس الذين يدفعون الثمن الأكبر ليسوا هم من يقرّرون الحرب. لكن الوضع في التركيبة السياسية لعالم اليوم لم يعد كذلك، أو لم يعد فقط كذلك. في عالم اليوم، أصبحت المأساة أو الكارثة التي تحل بالناس وسيلة حربية، كما في يد الأقوياء في يد الضعفاء.
يوجد اليوم فارق هائل في مستوى القوة بين أصحاب الحقّ ومغتصبيه، الأمر الذي يمكن أن يجعل أي نشاط "عدائي" يقوم به أهل الحقّ الضعفاء ضد غاصبي حقهم الأقوياء سبباً لكارثة تحل على الضعفاء. هذا هو نمط العلاقة التي تكرّست في فلسطين بين الفلسطينيين والسلطات الإسرائيلية. والحقيقة أن هذه العلاقة مكرّسة أيضاً بين الحاكمين والمحكومين في كل البلدان التي تحكمها أنظمة تسلطية ترى أنها صاحبة حقّ أبدي في حكم الناس، فهي لا تحتكم لأي وسيلة تغيير سلمي، وقادرة على أن ترتدّ بكل صنوف العنف المدمّر تجاه أي تحدٍّ جدّي لوجودها أو حتى لإرادتها.
يبقى الباب الوحيد المفتوح أمام المحكومين والمغتصبة حقوقهم القبول بالأمر الواقع والتكيّف. وإذا كان هذا القبول يمثل كارثة بالنسبة لهم، لأنه يعني التخلّي عن حقوقهم، فإن باب الرفض والتحدّي يمكن أن يفتح على كارثة إنسانية أكبر بكثير إلى حدّ يسوّغ النقاش حول جدوى التحدي وجدوى إيلام الغاصب إذا كان قادراً على إنزال الردّ الكارثي بالضعفاء (في إسرائيل "النووية" هناك مسؤولون فكّروا باستخدام سلاح نووي ضد غزّة عقب عملية طوفان الأقصى). الكارثة التي أنزلتها إسرائيل بلبنان في 2006 عقب عملية خطف جنود إسرائيليين (رغم أنها كانت عملية محدودة وبغرض محدّد هو تحرير أسرى)، والكارثة التي أنزلتها الطغمة الأسدية بالشعب السوري عقب ثورة 2011، والكارثة التي تنزلها إسرائيل بغزة اليوم عقب "طوفان الأقصى"، لها كلها منطق واحد، هو تقصّد المجزرة، وجعل الكارثة وسيلة ردع لفرض القبول والإذعان.
حسابات الفصائل التي تواجه إسرائيل لا تشمل حماية الأهالي، إنْ من حيث تأمين ملاجئ لحماية المدنيين في أثناء القصف أو من حيث تأمين احتياطات استراتيجية من حاجات البقاء
وبسبب الاختلال الكبير في علاقة القوّة بين أصحاب الحق ومغتصبيه، في عالم اليوم، بات التدخّل الخارجي مهمّاً وحاسماً. باتت استعادة الحقوق غير ممكنة في الغالب من دون تدخّل أطراف خارجية لها القدرة الكافية على فرض حلول وخيارات معينة على "الأقوياء". والأطراف الخارجية القادرة على ذلك هي الدول الكبرى. وفي الواقع، يبقى رهان الضعفاء معقوداً، من بين الدول الكبرى، على الدول الديمقراطية التي يمكن لثقل الشارع، ولضغط المنظمّات الحقوقية والإنسانية، أن يؤثر على صناعة القرار فيها. وبما أن الكوارث التي تحلّ بالناس هي أكثر ما يحرّك الشارع والمنظمّات الإنسانية، وأكثر ما يشكّل ضغطاً على صنّاع القرار في هذه الدول النافذة، فمن المفهوم أن يتولد في وسط المغتصبة حقوقهم عقلية تفكر بالاستثمار السياسي في الكوارث التي تحلّ بالناس على يد الجهات المغتصِبة في ردّها الإجرامي الرادع ضد الأهالي، عقب عمليات عسكرية مؤلمة للغاصبين. الفكرة هي عدم السكوت عن الحقوق المسلوبة وتوجيه الضربات إلى الغاصبين بقدر ما يتوفّر من وسائل قوة، بما يجعلهم يردّون بكارثة بشرية تدفع الدول الديمقراطية الكبرى، التي لها دور أساسي، في إدارة العالم، للتدخّل والبحث عن حلٍّ يكون فيه شيء من الإنصاف للضعفاء.
على هذا، تبدو المجزرة والكارثة الإنسانية وسيلة ردع في يد غاصبي الحقوق كوسيلة، وهي في يد الضعفاء المسلوبة حقوقهم وسيلة ضغطٍ على العالم. تكون حياة الضعفاء ودماؤهم وإنسانيتهم هنا سلاحا في يد أصحاب هذه العقلية الرافضة. الثمن الأساسي يدفعه الناس الضعفاء الذين يستهدفهم الغاصب القوي بوحشيةٍ لأنهم الوسط الاجتماعي أو "البيئة الحاضنة" للتشكيلات المسلحة التي تستهدفه. في المقابل، تدرك هذه التشكيلات أنها إذا كانت تستطيع إقلاق العدو، فإنها لا تستطيع هزيمته عسكرياً، ولكنها تستطيع استخدام المجازر والكوارث البشرية التي تسبّبها ردوده الوحشية لإحراج العالم الساكت، وربما المتواطئ، على ضياع حقوقهم، وإجباره على الاهتمام بقضيتهم.
هذا ما يفسر أن التنظيمات المسلحة التي تخوض هذه الصراعات العسكرية غير المتكافئة في عالم اليوم قليلة الاكتراث بأمان الناس الذين تنشط وسطهم. فهم مثلاً لا يبنون ملاجئ للناس. الأنفاق هي لحماية المقاتلين وليس المدنيين، فضلاً عن أنها من الأسرار العسكرية. ووفق منطق هذه التشكيلات، يشكل قتل المدنيين على يد العدو بذاته وسيلة ضغط على العالم. المهم هو حماية التنظيم العسكري. كلما ذهب العدو بعيداً في وحشيته الردعية زاد الضغط على الدول الكبرى كي تردع العدو وتبحث عن حلّ، كما لو أن المجزرة تجمع القاتل والقتيل. ففي المجزرة تلتقي العقليتان، عقلية الغاصب مرتكب الجريمة وعقلية الذين يريدون استخدام جريمة العدو ضده.
حين تغلق السبل أمام إحقاق الحقوق الصريحة، يصعب التنبؤ بما يمكن أن يُقدم عليه أهل الحق المسلوب
يتوافق مع هذا المنطق أن يخرًج قادة حماس كي "يطمئنوا" مجتمعهم المنكوب بعشرات آلاف القتلى والمفقودين والمصابين وبنسبة دمار تتجاوز نصف المساكن، بأن كتائب عزّ الدين القسام بخير. ومن هذا المنطق نفسه، ترى هذه التشكيلات في عجز العدو عن استئصالها نصراً، رغم الخسائر البشرية والمادّية التي تكبدتها مجتمعاتها، أو نسبة التشرّد والنزوح الناجمة عن الحرب.
لا يحتاج المرء إلى قراءة الرسائل الكثيرة التي تصل من غزّة، من الأهالي الذين يعيشون في أسوأ شروط الحياة، والمدرجين رغماً عنهم على لوائح الموت الممكن في كل لحظة، في حين تتحصّن قيادات الفصائل في أنفاق وأماكن بعيدة عن هذا الموت العشوائي الأعمى، كي يدرك أن حسابات الفصائل التي تواجه إسرائيل لا تشمل حماية الأهالي، إنْ من حيث تأمين ملاجئ لحماية المدنيين في أثناء القصف أو من حيث تأمين احتياطات استراتيجية من حاجات البقاء (الوقود والطعام والأدوية ... ). ولا يتطلب الأمر تأملا كثيرا كي يدرك المرء سبب إحساس الأهالي هناك، بالقهر، من "مستريحي الخارج" الذين يطالبون الناس بالصمود، ويتحمّسون لمقاومة الفصائل ولفيديوهات إعلامها العسكري، فيما الموتُ والتشرّد والبرد والجوع والألم تفتك بمئات آلاف الغزّيين.
حين تغلق السبل أمام إحقاق الحقوق الصريحة، يصعب التنبؤ بما يمكن أن يُقدم عليه أهل الحق المسلوب، فقد يُقدمون على أعمال تضرّ بهم في المحصلة. قبل توجيه اللوم إليهم، ينبغي توجيه اللوم إلى من سلب حقوقهم، ثم أغلق السبل بالقوّة أمام إمكانية استعادتها، وجعل المجزرة وسيلته للردع وفرض القبول.