في مقومات استمرار الهبّة الشعبية الفلسطينية
ما قام به ساسة إسرائيل وجنرالاتها في حربهم على الشعب الفلسطيني من جرائم قتل وتدمير للبنى التحتية والمرافق العامة والخاصة في غزّة يضاف إلى سجل كيانهم الوحشي الدامي، ويكشف طبيعته العنصرية، القائمة على التطهير العرقي والتوسّع الاستيطاني والتهجير القسري للفلسطينيين من أرضهم وأماكن سكناهم وعيشهم. لذلك لم تتوان آلة القتل والتدمير الإسرائيلية، وأمام مرأى العالم كله، عن استهداف الأبراج السكنية والأحياء المأهولة، والمؤسّسات الإعلامية والبنى التحتية من محطات الكهرباء والمياه والمشافي والمرافق الصحية في غزّة، فضلاً عن اعتداءات الشرطة الإسرائيلية، وغارات قطعان المستوطنين على الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية، والتجييش العنصري ضد الفلسطينيين في داخل الخط الأخضر.
وأظهر استهداف إسرائيل المناطق المدنية وساكنيها في غزّة أنها لا تكترث بأي أعراف أو مواثيق دولية تطالب بحماية المدنيين في أوقات الحروب والصراعات، فهي تتقصّد قتل الأطفال والنساء والرجال، وارتكاب المذابح بحق الأسر والعائلات الفلسطينية، ولا تضع أي خطوط حمر أمام آلتها التدميرية التي أطلقت العنان لها، كي تُحدث دماراً هائلاً في المناطق الفلسطينية في غزّة، مع الترويج الزائف بأنها كانت تؤوي مكاتب أو مقارّ لحركتي حماس والجهاد الإسلامي.
أظهر استهداف إسرائيل المناطق المدنية وساكنيها في غزّة أنها لا تكترث بأي أعراف أو مواثيق دولية تطالب بحماية المدنيين في أوقات الحروب والصراعات
وعلى الرغم من همجية الحرب الإسرائيلية والجرائم التي ارتكبت خلالها، إلا أن ساسة الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، تجاهلوا تلك الجرائم، ووضعوها تحت خانة الادّعاء بأن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها حيال الهجمات الصاروخية التي أطلقتها فصائل غزّة. لذلك عرقلت الإدارة الأميركية محاولات تبنّي مجلس الأمن بياناً كان يدعو إلى "وقف أعمال العنف" و"حماية المدنيين وخصوصاً الأطفال"، الأمر الذي أعطى الضوء الأخضر لاستمرار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للتمادي في ارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين، كونه كان يأمل في أن تشكل مجازره طوق نجاة مؤقتاً له، بغية إعادة ترتيب أوراقه وترحيل محاكمته بتهم الفساد التي تلاحقه، لذلك وجد في إطلاق حركة حماس صواريخ باتجاه إسرائيل فرصةً سانحةً كي يشنّ الحرب على الفلسطينيين، خدمة لأهدافه الشخصية، ولإفشال مهمة تشكيل حكومة إسرائيلية بديلة، علّه ينجح في تشكيل حكومة يمين فاشي جديدة، تضمن بقاءه في رئاسة الحكم وتجنبه دخول السجن.
وإذا كانت الجهود الدبلوماسية الإقليمية والدولية قد نجحت في التوصل إلى وقف العدوان الإسرائيلي على غزّة، إلا أن ذلك لن يُفضي إلى لجم الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في القدس وسواها، ولن يعني نهاية اعتداءات دولة الاحتلال وجرائمها. وفي المقابل، لن يعني ذلك نهاية نضال الشعب الفلسطيني ضد ممارسات الاحتلال، بل على العكس تماماً، فقد دخل هذا الشعب مرحلة جديدة من النضال في مواجهة النهج الإسرائيلي القائم على التهجير القسري والتطهير العرقي، جسّدتها الهبّة الفلسطينية العفوية التي بدأت في باب العامود وحي الشيخ جرّاح والمسجد الأقصى، بعيداً عن الفصائل ومخرجاتها، وامتدّت إلى معظم الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وداخل الأراضي المحتلة عام 1948، وفي أماكن وجود الفلسطينيين في دول الشتات واللجوء، منهيةً مزاعم الانقسام الداخلي الفلسطيني، ومعلنةً وحدة فلسطينية يقودها جيلٌ من الشابات والشباب، لا ينتمون إلى الفصائل وقياداتها، وذلك بعد أن اكتسبوا خبرات نضال شعبي جديدة ومتنوعة ضد ممارسات الاحتلال الصهيوني، من خلال الخروج بمظاهرات احتجاجٍ سلميةٍ يومية، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر صور مظاهراتهم ولتوثيق الجرائم والاعتقالات التي تقوم بها شرطة الاحتلال. وكان لافتاً نشرهم صوراً وفيديوهات تظهر ابتسامات الشابات والشباب المقدسيين لحظة قيام قوات الاحتلال باعتقالهم، حتى إن هناك من أطلق على الهبّة المقدسية توصيف انتفاضة الابتسامات، ووصفها بابتسامات التحدي.
وجاءت استجابة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وخارجه للإضراب العام في 18 مايو/ أيار الجاري كي تؤكد على وحدة الشعب الفلسطيني وفشل مخططات الأسرلة والتهويد، وعلى ضرورة توفير مقوّمات استمرار الهبّة الفلسطينية العارمة، بما يفضي إلى توحيد قيادة النضال الفلسطيني وتنظيم فعاليته وإدارتها، بوصفه نضال شعب تحت الاحتلال، ومن حقه تقرير مصيره ونيل حريته وإقامة دولته المستقلة.
برهنت الهبّات والتحرّكات الشعبية الاحتجاجية أن الشعب الفلسطيني يمتلك إرادة لا تقهر في التمسّك بالأرض
وأثبتت الانتفاضات والهبات الفلسطينية العديدة منذ الانتفاضة الأولى التي بدأت في نهاية 1987 واستمرت إلى عام 1993 أنها الأكثر تأثيراً على دولة الاحتلال الاستيطاني، نظراً إلى امتلاكها قدرة عالية في الضغط على ما يسمّى المجتمع الدولي، وخصوصاً حكومات الدول الغربية، بالنظر إلى تأثيرها على الرأي العام العالمي الذي تحرّك في مظاهرات شعبية عمّت مدناً وعواصم كثيرة، تضامناً مع الشعب الفلسطيني، واحتجاجاً على العدوان الإسرائيلي. كما انتشر هاشتاغ "فلسطين حرة"، وكذلك "أنقذوا حي الشيخ جرّاح" ليصبح الأكثر انتشاراً عالمياً، إضافة إلى انخراط شخصياتٍ عالمية، فنية ورياضية، في دعم ومساندة للقضية الفلسطينية، الأمر الذي أعطاها زحماً كبيراً. وهنا تأتي أهمية الاستفادة من الحراك الشعبي العفوي، ومن تزايد حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني التي تصاعدت بالتوازي مع فضح السلوك الفاشي لدولة الاحتلال، حيث أظهر التضامن الشعبي الدولي الواسع مع القضية الفلسطينية أنه لم يعد بالإمكان التستر على جرائم إسرائيل وانتهاكاتها لحقوق الفلسطينيين، وأن السردية الفلسطينية باتت عنواناً لمعركة الحريّة والعدالة في العالم.
لقد برهنت الهبّات والتحرّكات الشعبية الاحتجاجية أن الشعب الفلسطيني يمتلك إرادةً لا تقهر في التمسّك بالأرض، والتضحية من أجل قضيته العادلة، لكن هبّاته وانتفاضاته بحاجة إلى مقومات استمرارها، عبر إنتاج بنية تنظيمية موحدة وبديلة عن بنى الانقسام الحاصل، وقيادة موجهة ومنظمة لفعالياتها، وتضع استراتيجية نضالية موحّدة تسخّر كل أشكال العمل النضالي في الداخل والخارج في مواجهة الاحتلال، وبناء شبكات تواصل شعبية تنظم الحراك الفلسطيني، وبما يزيد تأثيرها على المشهد السياسي، ويحولها إلى انتفاضةٍ شاملة، وهذا يتطلب انخراط القوى والفصائل والأحزاب وتوحيد الجهود من أجل نيل الحرية والخلاص من الاحتلال.