في ملهاة "المومس الفاضلة"
عَبرت زوبعة "المومس الفاضلة" في مصر، وانتهت، وكأنها لم تكن. بدأت بخبرٍ نشطت الفضائيات والمواقع الإلكترونية والصحف المصرية في تناقله ونشر تعليقاتٍ عليه "ومعالجاتٍ" له، وانشغلت به وسائط إعلام غير مصرية، واكترثت به برامج تلفزيونية في عدّة فضائيات عربية، واهتمت به وكالات أنباء عالمية. والقصّة وما فيها إن إلهام شاهين قالت إنها ترغب بتأدية دور "المومس الفاضلة" في مسرحية سارتر بالاسم نفسه، وأبلغت بهذا سميحة أيوب التي قامت به قبل أكثر من 60 سنة. ثم يلتقط عضو في مجلس النواب الخبر، فيقدّم طلب إحاطةٍ إلى الحكومة ممثلةً برئيسها ووزيرة الثقافة، ويطلب منع هذا العرض المسرحي بسبب اسمه "الفاضح" الذي "يتنافى مع القيم المصرية". وتعقيبا على أنه تم تقديم المسرحية في الستينيات (الصحيح في 1958) على المسرح القومي في القاهرة، من بطولة سميحة أيوب (وعمر الحريري وتوفيق الدقن و...، وإخراج حمدي غيث)، قال إن تلك الظروف تختلف عن الظروف الراهنة. ثم يدعم عضوٌ في مجلس الشيوخ طلب النائب "الوفدي"، ويؤكّد رفضه نقل "اللفظ الخادش" بين مسامع المصريين. يَذيعُ هذا، فتنشط زوبعةٌ واسعة، عنوانُها الأهم الغضب الواسع مما قاله الرجلان، واعتُبر دلالةً على "ردّةٍ ثقافيةٍ" راهنة في مصر، بل وتقول سميحة أيوب إن مصر تقهقرت خمسمائة عام إلى الوراء. وأشاعت إلهام شاهين إن وراء البرلمانيين المعترضيْن جماعة الإخوان المسلمين، وتصعّد، وترفع بيارق ما سمّته "الفكر التنويري" الذي "لن نسمح" لأصحاب النظرة الضيقة والفتاوى الجامدة أن يعرقلوه. وفي الأثناء، استعادت مراجعاتٌ في مسألة "المومس الفاضلة" زيارة سارتر القاهرة التي استقبله فيها جمال عبد الناصر، وثلاث ترجمات (أولاها لسهيل إدريس العام 1954 في مجلة الآداب البيروتية بعنوان "البغي الفاضلة") لمسرحية سارتر التي كتبها في 1946 مستوحاةً من واقعة حقيقية عام 1931 في الولايات المتحدة. واستعيدت أيضا مجاملة سارتر سميحة أيوب، في مصافحته لها (بانحناءة)، في زيارته القاهرة في مارس/ آذار 1967. وإنْ هي إلا أيام، ثم لا حسّ ولا خبر في الموضوع، فلم نصادف خبرا عما حصل في "طلب الإحاطة"، بل وما إذا كانت "دردشة" إلهام شاهين مع سميحة أيوب ستمضي إلى تقديم "المومس الفاضلة" مجدّدا.
كأن شيئا مسرحيا في الحدّوتة برمتها، فلم يكن هناك عرضٌ لا على الخشبة ولا قيد الإنجاز، حتى ينبري نائبٌ (منتخب) وعضوُ مجلس شيوخ (معيّن) للذود عن قيم المصريين. كأن غرضا وراء الزوبعة العابرة التي جدّدت فيها إلهام شاهين إعلان "تنويريّتها"، أريد منه إلهاء الرأي العام بقصةٍ لم يحدُث منها شيء، وإنما ليتم عبرَها إشغال الصحافة والفضائيات بملهاةٍ عارضة، على شيءٍ من الجاذبية طالما أن في الحكاية مومسا ونجمة اسمها إلهام شاهين، ولتنصرف عن قضايا أكثر إلحاحا وجوهرية. ولأن أفانين أنظمة التسلّط والتحكّم بالمجتمع صارت معلومةً (بعض الشيء)، فإن لواحدِنا أن يستطيب تفسيرا، يشرَح هذا الحدث الذي مرّ في مصر، واسمُه مسرحية سارتر "المومس الفاضلة"، بحسٍّ "تآمري". ولمّا كان النائب الذي طلب منع العرض المسرحي (ليس هناك هذا العرض أصلا!) قال إن اعتراضه هو على مسمّى المسرحية، فإن هذا من بواعث الغرابة التي تجتمع في القصة المفتعلة (والمسليّة ربما بعض الوقت؟)، فالمومس مفردةٌ فصيحةٌ في العربية المعجمية، وإذا كانت فاضلةً في وصف الشخصية التي بناها سارتر، فذلك لأنها امتنعت عن شهادة زور في المحكمة. ولكن، هناك ما أريد صُنعه، قُصد منه أن تلتّ الصحافة و"السوشيال ميديا" وتعجنان فيه، وأن يعلن أسامة الغزالي حربا مثلا (في "الأهرام") عن إصابته بالدهشة من "هوجة" عضوين في برلمان البلد بشأن مسرحية الفيلسوف الفرنسي، وأن يصف إلهام شاهين بالفنانة الكبيرة.
من مفارقاتٍ في الوسع الوقوع عليها إن الحادثة الواقعية التي استوحى منها سارتر مسرحيته بدأت أساسا في دفاع عضوٍ فاسدٍ في الكونغرس الأميركي عن جريمة قتل ابن شقيقته أميركيا زنجيا، وكان يريد دفع فتاة ليلٍ إلى شهادة زورٍ في المحكمة في القضية. وليس فاسدا عضو البرلمان المصري من أشعل الزوبعة العارضة الأشبه بمسرحية، قبل أيام في مصر، وإنما هي ظلال الفساد السياسي العام في البلاد حاضرةٌ في تفاصيل عملٍ دؤوبٍ ومنظّمٍ تؤدّيه أجهزة تعرف شغلها، وحده سوء الظن بها يجيز الميْل إلى أنها اختارت، في هذه المرّة، سارتر وسميحة أيوب ونائبا قيد الغضب من أمرٍ لم يحدُث .. وبطلة المشهد جاهزة: إلهام شاهين.