في موت نائل أو فشل السّياسة العامّة للاندماج
قتل نائل، رحمه الله، بطلقٍ ناريٍّ أطلقه شرطي خارج القانون بسبب مخالفة مرورية، واشتعلت، على أثر الحادث، فرنسا بتظاهراتٍ عارمة للتّنديد بالعمل الجنائي. وأبعد من ذلك، للتّنديد بفشل السّياسة العامّة للاندماج وتبعاتها من تعليم، تكوين، تشغيل، عدالة، سكن إضافة إلى الهوية، الانسجام المجتمعي، المعاملة التمييزية التي ما زال المهاجرون يتلقّونها بالرّغم من وصولنا إلى الجيل الرّابع من الهجرة، من ناحية، وكون هؤلاء، بحكم القانون، فرنسيين، من ناحية أخرى، ولكن من درجة ثانية من حيث الاعتناء في كل السياسات العامة المشار إليها.
تتناول المقالة، بالتّحليل، تلك الأحداث بالتّركيز على شخصيتين اثنتين، هما وزيران من أصول مغاربية. مارس، كلاهما، المسؤوليات السّياسية. ولكن بمنحى مختلف، ويتعلّق الأمر بوزيرة العدل السّابقة، رشيدة داتي، والوزير الحالي للدّاخلية، جيرالد دارمانان، حيث بدت تلك الممارسة مختلفة، تماما، ربما تشكّل مرجعية لفهم أسباب (ومآلات) ما يجري في فرنسا، هذه الأيّام.
من البديهي القول إنّ في ما حدث من تظاهرات، في فرنسا، على خلفية مقتل نائل، جانب موضوعي، يتمثّل في مناهضة التمييز الذي أضحى أساسا في التّعامل مع المهاجرين من أصول أفريقية ومغاربية، بصفة خاصّة، التميز الذي يتصاعد، ومسّ كلّ مناحي حياة أولئك المهاجرين من منع من العمل، منع من التّفوُّق، منع من السّكن في غير الضواحي، تفتيش في كل ناحية، وتضخيم للمخالفات، حتى المرورية منها، لتصبح حالات قانونية لمعاقبةٍ قد تكون إعداما خارج إطار القانون. أمّا الجانب الذّاتي ففيه ذلك الجانب الذي لا يمكن القبول به، وبرز في التّخريب والنّهب لمبان عمومية، حرق لسيارات خاصّة ونهب لمحال ومتاجر، حوّلت بل حوّرت الجانب الموضوعي وألبسته لبوس السّرقة والخروج عن القانون الذي يشتكي المهاجرون أنّ الشرطة تجاوزته وقتلت بموجبه نائل.
عند متابعة قنوات الأخبار وقراءة المجلات والصحف الفرنسية، نجد أن الوزيرين المذكورين قاما بمداخلات، رشيدة داتي بحكم مسؤولياتها السابقة في وزارة العدل ودارمانان بوصفه الوزير الحالي للداخلية والمسؤول الأول عن المؤسّسة الشرطية الفرنسية. لكن، ما يجعل مداخلات المسؤولين الفرنسيين مهمّة، هنا، أنهما من أصول مهاجرة مغاربية، أي أن الحديث الذي يشكل مضمون ما يقولانه، في وسائل الاعلام، ينبع من تجارب عايشاها بشأن المعاملة المتميزة للمهاجرين، على الأصعدة كافة، ومخارج تلك التجارب على رؤية كل منهما لمقاربة التعامل مع الأحداث التي تجري، في فرنسا، على خلفية مقتل نائل.
تزامن بثّ قناتين فرنسيتين لحديثٍ أدلى به، كل منهما، دارمانان وداتي، بشأن الأحداث، حيث تحدّثت الوزيرة السابقة للعدل عن رأيها في الأحداث وتراكمات السنين في بقاء السياسات العامة الفرنسية، تجاه المهاجرين، هي نفسها مع سردها معاملة السلطات الأحداث نفسها بين 2005 التي شهدت مقتل شابّين من أصول مغاربية وأفريقية واندلاع تظاهرات عارمة دامت فترة العام الحالي، 2023، وتعامل الشرطة والحكومة مع مقتل الشاب نائل في ظروفٍ مشابهة، سياق يكاد يكون هو نفسه، ومخارج دراماتيكية تنبئ عن عدم تغير نظرة الشرطة للمهاجرين ولا مقاربة التعامل معهم في كل مكان وعلى الأصعدة كافة، تقول داتي.
العقل السياسي الفرنسي، من أصول مهاجرة، بصفة خاصّة، يتعامل مع المقاربات التمييزية في معاملة المهاجرين من منطلق الانتماء الجديد لهوية ومؤسّسات
تقول رشيدة داتي، إنّها عاشت في الضواحي وتعرف المشكلات التي يتعرّض لها المهاجرون. وبالتالي، هي تفهم تراكمات السنين، واقترحت تغيير أدوات السياسات العامة كافة بشأن التعامل مع المهاجرين من منطلق أن الدروس المستفادة، كل مرّة، من أحداثٍ مأساوية، مثل ما حدث في نانتير لنائل، من الشُّرطة، وما تبعتها من تظاهراتٍ عارمة، هي وجوب مراجعة التّشخيص لإشكالات الهجرة، دراسة معمّقة للأوضاع وفرض سياسات عامة إصلاحية عاجلة وعميقة لتلك الإشكالات.
أمّا دارمانان، وزير الداخلية، فقد كانت مداخلته الأساسية على قناة عامّة في نشرة أخبار تابعها الملايين من الفرنسيين، استخدم فيها، على عادته، لغة سياسية ساوت بين الجلاد، الشُّرطي الذي أطلق النار على نائل، والضّحية، نائل، الذي يمثل عينة عن المهاجرين، وأن مقتله هو نتيجة لمقاربة تحتاج مراجعة وليس إلى تبرير.
حمل دارمانان، في مداخلته، على الشّباب المهاجر المتظاهر، وأبرز عمليات النّهب والسرقة المؤسفة، حقّا، ولكنها ليست هي الأساس، حيث لم يعرّج على فيديو الحادثة ولا سياق حدوث ما حدث، فعلا، من تحوّل مجرّد مخالفة مرورية إلى حكم بالإعدام وتنفيذ له من الشُّرطي الجاني خارج نطاق القانون، وبعيد عن كلّ ما يحكم عمل الشُّرطة أو المؤسّسات الفرنسية الشرطية والقضائية.
بدا دارمانان، كما صوره شريط استقصائي لإحدى القنوات، متماهيا مع شخصية مفضّلة له، بل هي ملهمة له، هو الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية، في 2005، عندما وقعت أحداثٌ مشابهةٌ ما يحدث هذه الأيام. بل، أبعد من ذلك، وفق كلامه ومضمون الشّريط المشار إليه، بدا كأنه غير مكترث، تماما، بالسياق الحقيقي لظلم وقع على الشّاب نائل، ومن ورائه المهاجرين بشأن التميز العنصري وسوء المعاملة، لأنّه، في المداخلة ذاتها، لمّح إلى أنّ ثمّة تجاوزات ومخالفات اضطرّت إلى بروز مقاربات صارمة مع الشباب المهاجر أو ساكنة الضّواحي، وكأنه كان يقول إنّ ما حدث مبرّر، بالنّظر إلى توحش شباب الضّواحي ووجوب أن يكون القانون صارما مع محاولات التّجاوز والتعدّي على العيش في جمهورية علمانية بأساسيات هي المكون الرئيس للعقل الفرنسي والهوية الفرنسية، ليس إلاّ.
في ما حدث من تظاهرات، في فرنسا جانب موضوعي، يتمثّل في مناهضة التمييز الذّي أضحى أساساً في التّعامل مع المهاجرين من أصول أفريقية ومغاربية، بصفة خاصّة
عند مقارنة مداخلتي المسؤولين الفرنسيين، نصل إلى نتيجة مهمة، أنّ العقل السياسي الفرنسي، من أصول مهاجرة، بصفة خاصّة، يتعامل مع المقاربات التمييزية في معاملة المهاجرين من منطلق الانتماء الجديد لهوية ومؤسّسات، وبعيدا عن أساسيات التعامل الموضوعي وفق قواعد القانون في دولة القانون. وهو ما كانت محكمة العدل الأوروبية لحقوق الإنسان قد أثبتته، بحقّ فرنسا، عندما دانتها في ملفّات التعامل مع المهاجرين ومقاربة التّطبيق الصّارم لمبادئ العلمانية، ولكن بحق المسلمين، فقط.
ربما نضيف، هنا، أن لغة وزير الداخلية، دارمانان، تتماهى مع لغةٍ رأينا كيف أنها فرضت نفسها على المشهد الثقافي والإعلامي الفرنسي، يشكّل اليمين المتطرّف محورها في المرجعية السياسية. وطغى من خلالها استخدام عبارات الاستبدال الكبير، المساواة بين الإسلام والإسلاموية، اتّهام المسلمين السّنة، بصفة خاصّة، بأنهم مصدر التهديد الأول للجمهورية (دارمانان في واشنطن، منذ حوالي شهر)، إضافة إلى محاولة ادّعاء أنّ الضواحي وساكنيها هم خارج القانون أو أنّ تلك الضّواحي أضحت مناطق رمادية بعيدة عن قوانين الجمهورية، ويجب استعادتها بأية مقاربة كانت، ومنها العنفية، كما حدث ويحدث، عندما يتم التعامل بصرامة مع مخالفاتٍ بسيطة بعقوباتٍ تصل إلى الإعدام، حقّا لا مجازا.
ولعلّ ما يلخّص الأمر، هنا، و يُبرز مدى الشرخ الذي وصل إليه المجتمع الفرنسي إطلاق شخصية يمينية متطرّفة عملية مساعدة مالية لأهل الشّرطي الجاني، ووصول المبلغ الذّي تمّ جمعه إلى ما يربو على 700 ألف يورو في أقلّ من 24 ساعة، ما يشي بأنّ ثمّة حاجة ملحّة لمراجعة كل ما يتصل بالمهاجرين والسياسات العامّة ذات الصّلة قبل فوات الأوان.