في هزيمة من يحاول احتكار القدس
وفّر الاحتلال عام 1967 فرصة نادرة للطرف الإسرائيلي، القدرة على السيطرة على القدس والتفرّد بها، وخصوصاً البلدة القديمة الغنية بالأماكن الدينية والتاريخية، والتي جعلتها مدينة فريدة. وقد حاول القائمون الأوائل على الدولة الإسرائيلية عدم احتكار المدينة لطرف واحد على حساب الأطراف الدينية الأخرى، فطبق رئيس بلدية الاحتلال الأول، تيدي كوليك، سياسة منفتحة عملت على ضمان الحرّيات الدينية واحترام الوضع القائم في المدينة. وقد شملت قرارات الاحتلال الأولى موقفاً صارماً يمنع دخول أي شخصٍ من أتباع الديانة اليهودية إلى منطقة الحرم القدسي الشريف، والاكتفاء بإجراء كل الاحتفالات الدينية والسياسية في ساحة حائط البراق، أو ما يسمّيه اليهود الحائط الغربي، وما يتعارف عليه شعبياً بحائط المبكى.
لم تكن قرارات المحتلّ نابعة من رغبة حقيقية في التعايش، بل جاءت بسبب قناعة وفهم للتاريخ بأن من يحاول احتكار القدس سيخسرها. ولم تكن إسرائيل مهتمة بالتعايش عن قناعة، والدليل أن الجرافات الإسرائيلية هدمت، بعد أيام من الاحتلال، وبعد إنذار ساعات عدة، حارة المغاربة الملاصقة لحائط البراق، وجرفت حياً بأكمله، من أجل توسيع ساحة الحائط الذي يعتبره اليهود مقدساً لهم. وفي المقابل، اعتبر كبار الحاخامات اليهود في إسرائيل (الشرقيين السفارديم والغربيين الإشكناز) أن منطقة الحرم الشريف، ويسميها اليهود جبل الهيكل، منطقة مقدّسة يُمنع دخولها لأسباب دينية. وقد وفر ذلك القرار، في البداية، عدم احتكاك أو صراع على المنطقة الممتدّة إلى 142 دونما، والتي تشمل المسجد الأقصى وقبّة الصخرة والمتحف الإسلامي والساحات والمباني التي كانت واستمرّت تحت إشراف مجلس الأوقاف الأردني وإدارته، وضمن الوصاية الهاشمية للأماكن المقدّسة. وقد جرى تطوير تلك الوصاية عام 2013 عندما وقّع الملك عبد الله الثاني والرئيس محمود عبّاس اتفاقاً يوفر ضمانات الدولة الأردنية في رعاية الأماكن الإسلامية والمسيحية في القدس، ولغاية إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. وكانت عمّان قد أصرّت قبيل توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل، في عام 1994، على الوضع الخاص للأردن، في شأن الأماكن الإسلامية في القدس. ولكن كل تلك المحاولات لضبط الوضع الخاص والحساس في القدس انهارت في السنوات الأخيرة، مع صعود اليمين اليهودي المتطرّف وسيطرته على غالبية أركان دولة الاحتلال، والتي كان جديدها أخيراً وصول متديّن يهودي متطرّف إلى موقع وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي.
نجحت إسرائيل فترة طويلة في تحديد قدرة رؤساء الكنائس على انتقاد مخالفات حقوق الإنسان في القدس وفلسطين بشكل عام
وقد وفّرت تلك الأمور فرصة لإشباع الرغبات المسيطر عليها من القادة الإسرائيليين الأوائل في احتكار كامل القدس القديمة، وزادت بصورة كبيرة من وتيرة التهويد والأسرلة في الاتجاهات كافة، ومنها ما يتعلق بفرض المناهج الإسرائيلية على فلسطينيي القدس، وتوسيع كبير في الاستيطان، بموازاة رفض أي توسّع سكاني فلسطيني، وارتفاع حادّ في هدم البيوت الفلسطينية. ولم تقتصر محاولة التهويد الإسرائيلي على الأماكن الدينية الإسلامية أو الرموز الإسلامية من خلال سياسات التضييق، ومنعه المسلمين من التنقل، وأحياناً حتى من دخول المسجد الأقصى مدداً محدّدة، بل انتقلت إلى التضييق على المسيحيين من سكان القدس ومؤسّساتهم، فقد عمل الجهاز الإسرائيلي الرسمي على فرض شروط مختلفة، متعلقة بكوتا حدّدت التأشيرات التي يتم من خلالها السماح للكنائس المسيحية بالاستفادة منها في استقدام رجال الدين من خوارنة وقسيسين وراهبات ومتطوعين تابعين لها، كما استغلت إسرائيل ضرورة الموافقة على المصادقة على تعيين البطاركة ورؤساء الكنائس لفرض شروط معينة على الكنائس. ونجحت فترة طويلة في تحديد قدرة رؤساء الكنائس على انتقاد مخالفات حقوق الإنسان في القدس وفلسطين بشكل عام، وحتى المضايقات التي واجهت المكوّن المسيحي في المناطق الفلسطينية المحتلة. وفي الوقت نفسه، كانت إسرائيل وأعوانها من الجهات الاستيطانية يسعون باستمرار إلى السيطرة على الأماكن المسيحية من خلال الترهيب والإغراء، جديدها أخيراً استخدام أساليب غير أخلاقية وغير قانونية لمحاولة الاستيلاء على فنادق تابعة لبطريركية الأرثوذوكس في باب الخليل. وأخيراً، أغريت بطريركية الأرمن ببيع ربع أراضٍ استراتيجية في حارة الأرمن أولاً للبلدية، لتحويلها لموقف سيارات، في خطوة مدروسة للبيع الأوسع للأراضي لمستثمر يهودي لإقامة فندق فاخر على أراضي الكنيسة الأرمنية.
الوضع في القدس أصبح غير مقبول، ويجب معالجته جذرياً، وليس فقط عند خروج فيديو إلى العلن
لقد أدّت عمليات التهويد والأسرلة المرتفعة وغياب أي محاولاتٍ لردع المتطرّفين عن مضايقتهم إلى تشجيع كل الفئات المتديّنة إلى توسيع نفوذها، وإلى عمليات ترهيب ضد السكان الفلسطينيين في القدس القديمة، ومنها رجال الدين والراهبات والحجّاج المسيحيون ورموزهم الدينية من صلبان وغيرها. وقد شهد عاما 2022 و2023، أي منذ زيادة سيطرة المتطرّفين في الحكومة الإسرائيلية، إطلاق العنان لعمليات المضايقة والاعتداء، من خلال غياب المساءلة والحساب، وتكسير الصلبان في المقابر واعتداءات متكرّرة على الكنائس، وازدياد رمي الشبان المتطرفين الحجارة والبصق المستمرّ على رجال الدين والراهبات والحجّاج وعلى الكنائس في البلدة القديمة. وذلك كله أمام أنظار الاحتلال، والمعلوم أن شبكة الكاميرات التابعة للشرطة الإسرائيلية تغطّي كل بقعة في البلدة القديمة من القدس. ولكن زيادة الاعتداءات اليومية، والتي تم توثيق ونشر بعضها من خلال كاميرات التلفونات النقّالة، وضعت رجال الدين المسيحي في موقع لم يستطيعوا السكوت عنه، حتى وصل الأمر إلى حاضرة الفاتيكان، بمناسبة تنصيب بطريرك القدس كاردينال، حيث تم نقل معاناة الشعب الفلسطيني بشكل عام، والمكوّن المسيحي بشكل خاص، إلى البابا فرنسيس، وللإعلام المشارك في الاحتفالات المسكونية في روما.
معالجة ما يجري في القدس يجب ألا تقتصر على بيانات استنكار، مع أهمية وجود تلك البيانات الموقعة من كل الكنائس، ولكن يجب الاتفاق على استراتيجية واضحة تشمل التوثيق والنشر واتخاذ قراراتٍ قد تصل فيما تصل إلى إغلاق الكنائس، ومنها كنيسة القيامة، لإيصال رسالة لا يمكن تجاهلها، أن الوضع في القدس أصبح غير مقبول، ويجب معالجته جذرياً، وليس فقط عند خروج فيديو إلى العلن. وقد أثبت التاريخ أن من حاول في الماضي احتكار المدينة المقدّسة لطرف معين أو ديانة محدّدة قد خسرها، فالمطلوب عمله تطبيق مبادئ الوضع القائم (status quo) والعمل الجادّ على المشاركة واحترام الآخر، وسيؤدّي غير ذلك إلى انفجار غير محدود نطاقه أو شكله.