في وداع "بانيبال"
مألوفٌ أن تُصادف أخباراً عن توقّف صحفٍ ودورياتٍ عربية (وأجنبية) عن الصدور، سيما الثقافية، لغير سببٍ وسبب، ولهذا، لا يُستقبل بعضُها بانتباهٍ خاصّ، ولا تستدعي اكتراثاً من جمهرة المعنيين بالشأن الثقافي (والصحافي). لكنّ إعلان مجلة بانيبال، الفصلية، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وداعَها قرّاءَها، وتوقّف مسيرتها التي انتظمت منذ عددها الأول في فبراير/ شباط 1998، كان نبأً من جنسٍ آخر، فقد استثار زوبعةً من مشاعر وأفكار وخواطر تبدّى فيها الأسى والأسف، مع بعض الغضب وشيءٍ من الحنق، فهذه المجلّة التي اختارت لنفسها اسم مؤسّس أول مكتبةٍ في العالم، الإمبراطور آشور بانيبال (668 - 627 ق. م)، كانت تؤدّي مهمّةً لا يؤدّيها غيرُها، ولا بادرت أي مؤسّسةٍ ثقافيةٍ أو إعلاميةٍ عربيةٍ، رسميةٍ أو أهليةٍ، إلى إنجاز ما أنجزته.
توجّهت المجلّة في أعوامها الـ25، من لندن، إلى القارئ بالإنكليزية، عن الأدب العربي، سيّما الحديث. وفي انتدابِها نفسَها لهذا الدور البالغ الإلحاح والأهمية، كانت تصنع فعلاً ثقافياً، قد يقول قائلٌ، صدوراً عن حسن الظن، إنّه من مهمات وزارات الثقافة العربية وجامعة الدول العربية، غير أنّ الحقّ والحقيقة أنّ هذه الجامعة وأيّاً من تلك الوزارات ليس في وسعها أن تقوم بالعمل الذي واظَب عليه الثنائي المثابر، الناشرة البريطانية مارغريت أوبانك وزوجها الناثر العراقي صموئيل شمعون، ربع قرن، بكفاءةٍ، وبانتماءٍ محبّ للأدب العربي، وباستقلاليةٍ منحازةٍ إلى الحرية والجمال في مجرى الفنون والآداب العربية، سيما المعاصرة والحديثة منها. وهذا كلّه لن تجد له أي مساحاتٍ في مشاغل الجامعة ومؤسّساتها البيروقراطية البائسة، وكذا وزارات الثقافة العربية المثقلة بهيمنة المنظورات الحكومية، وبالوظيفيّة التقليديّة، والتوجّس من كل جديدٍ وحرٍّ ورفيع.
ونحن على مبعدة أيامٍ من توزيع جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في دورتها الثامنة في الدوحة، نتذكّر أن "بانيبال" أحرزت في الدورة الثانية (العام 2016) الجائزة عن فئة الإنجاز. وكان تكريما مستحقّا للجهد الذي تبذُله مارغريت وصموئيل (ومتعاونون ومتطوعون)، في تيسير نافذةٍ للقارئ بالإنكليزية يطلُّ منها على أنفاسٍ متنوّعةٍ من الأدب العربي الجديد. والجائزة تكرّم كل منجزٍ في بناء الجسور بين الثقافات واللغات والحضارات، والجسر الذي عَبَرَ منه مئات الكتّاب والأدباء العرب، بنصوصِهم وبتقديم تجاربهم وبمحاوراتٍ معهم، على صفحات "بانيبال"، إلى القارئ بالانكليزية، يجوز حسبانُه تمثيلاً وفيّاً لمنظور الجائزة العالمية العتيدة. ولا يغفل هنا أيضاً أنّ المجلة التي تُغادر جمهورَها استحقّت، أيضا، جائزة الشيخ زايد للكتاب في فئة النشر والتقنيات الثقافية في دورتها الرابعة عشرة (2020).
تقول مارغريت أوبانك في بيانٍ قصير، قرأته في حفلٍ وداعيّ في لندن، الأسبوع الماضي، إنّها (وصموئيل) لم يشكوا أو يتذمّرا يوماً من قصور المؤسّسات الثقافية العربية تجاه المجلّة، وعدم تجاوبها معهما، وغياب دعمِها ترجمة الأدب العربي إلى لغاتٍ أخرى "مع أنّنا ندرك تماماً أنّ ذلك يجب أن يكون من أساسيات رسالة تلك المؤسّسات ومهامها". والبديع في البيان الرهيف أنّه لم يأتِ على أن المسألة المادّية وراء توقّف "بانيبال"، وإنْ لا بدّ أن يكون هذا سبباً رئيسياً، بل قالت مارغريت إنها ورفيق رحلتها صموئيل "لم يعودا قادريْن على مواصلة العمل، مؤمنين، في الوقت نفسه، بضرورة ضخّ دماءٍ جديدةٍ من الشباب الذين يتمتّعون بالحماسة نفسها التي رافقتنا خلال هذه الرحلة، نحن وجميع من عمل معنا". وللحقّ، ثمّة فائضٌ من العذوبة في هذا البيان الذي أوجز مقاصدَه، وبدا مُحرِجاً بما امتلأ به من صراحةٍ عالية القيمة، وهو يوحي بظلالٍ وإيحاءاتٍ كاشفةٍ عن حالٍ عربيٍّ تعيس.
أظنّه الموقع الإلكتروني لمجلة بانيبال سيحمي أرشيف 75 عدداً، ضجّت بمئات النصوص الشعرية والسردية العربية بالإنكليزية، وبمئات الإطلالات على إصداراتٍ إبداعيةٍ متنوعةٍ، وبمراجعاتٍ لكتبٍ ورواياتٍ ودواوين ومجموعاتٍ قصصيةٍ بلا عدد، وكذلك المُحاورات التي أفضى فيها عشرات الكتّاب والكاتبات العرب بانطباعاتهم وتصوّراتهم في غير شأن، فضلاً عن عشرات الصور الفوتوغرافية لأديباتٍ وأدباء من مختلف الدول العربية. وفي هذا كلّه، وغيرِه، صحّ ما قالته مارغريت، مرّة، إنّ "بانيبال" سعت إلى وضع نفسها في خدمة بانوراما حيويةٍ للأدب العربي وكتّابه ... وقالت هذه السيدة، أنيقة الروح، في مناسبةٍ أخرى، إنّ العالم العربي هو عالمها. والقول لها هنا إنّها تستحقّ ألف وردةٍ ووردةٍ على الأقل.