في وداع شيخ النحاة نهاد الموسى
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
لا أكتب بموضوعية عن الدكتور نهاد الموسى، فقد ظل، رحمه الله، بمقام الوالد منذ شراكتهما في تأليف مناهج قواعد اللغة العربية في الأردن، وكنت واحداً من ملايين الطلاب الذين درسوا تلك المناهج التي ظلّت تدرّس نحو ثلاثة عقود. في أطياف الطفولة، صورته في بيتنا شريكا للوالد في رحلة التأليف، وصديقا للوالد رحمهما الله، وصورته بعدها بأربعة أعوام عند رحيل الوالد عن 35 عاماً، وكان أصغر منه بعام، وتخرّج كلاهما في جامعة دمشق، تحضر هنا صورة الوفاء من مشاركته الجنازة في معان، وحدبه علي وعلى إخواني، وتواصل زياراته هو وزوجته الفاضلة بيتنا واستمرار زيارته قبر صديقه.
ولعل أكبر ثروةٍ تركها والدي، والوالد الثاني نهاد الموسى، رحمهما الله، هي مناهج اللغة العربية لطلاب الثانوية في الأردن، فقد كانت فتحا على مستوى عربي أخرج النحو من المدرسة التقليدية التي تُصاغ فيها الجملة على قد القاعدة "ضرب زيدٌ عمرا" إلى لغةٍ حيةٍ في حاضرها وماضيها، تفهم فيها القواعد وتطبق وتُعاش ويستفز العقل للتفكير العلمي والإبداعي والنقدي. كانت النصوص تتنوّع من القرآن الكريم والتراث الشعري والنثري من الشعر الجاهلي إلى الجاحظ وصولا إلى الشعراء المعاصرين مثل نزار قباني ومحمود درويش.
عكست تلك الشراكة انفتاحا متبادلا، فالوالد كان إسلاميا والموسى كان قوميا، تآلفا ولم يتنافرا، إنسانيا وفكريا. ولذا كان المنهاج منوّعا منفتحا ثريا يجمع ولا يفرّق بين أفكار الأمة وتراثها ومعاصرها. ويتعامل معهما بشكل نقدي لا يقوم على التقديس، فمثلا في درس صيغ التفضيل يستخدم نصا للكاتب الشهير محمد حسنين هيكل، أخطأ فيه في حديثه عن أميركا والاتحاد السوفيتي بوصفهما "القوتين الأعظم"، والصحيح القوتين العظميين. هذا لم يكن دسّا لغويا فقط بقدر ما هو تربية للعقل النقدي، طالب في المرحلة الثانوية يصحّح لهيكل. ولم يكن متشنّجا في التعامل مع العامية ولا متقعّرا، بل يحاول أن يفصّحها، فمثلا في درس التصغير يقدم أغنية "يا عنيّد يا يابا".
من أفضل من كتب عن سيرته الدكتور محمد شاهين، في مقال نشرته صحيفة الرأي الأردنية في 2011. وتجعلك إنجازات الموسى، في ميدان التراث، تحسّ أنّ التراث لم يعد مُحنّطاً، بل أصبح على يده يحاكي الحاضر بمنظور جديد، يجعلنا نُقبل عليه بشغفٍ وكأنه كُتِبَ من جديد. ويعود ذلك إلى تعامل الموسى مع التراث وفق أحدث نظريات التواصل مع النص، قراءة وكتابة وتحليلا وتفسيراً، إذ إنه على وعي تام أنّ القارئ أو الناقد أو الذي يتعامل مع النص لا يُغفِل دوره الفاعل في استخراج ما استبطن في النص الذي يخرُج من جعبة صاحبه الأصلي، ليذهب إلى مستقبِلٍ جديد، يؤدّي واجبه تجاه النص ليصبح على وجه التقريب كاتباً جديداً له. وهذا كلّه مردّه إلى إيمان الموسى بالعروة الوثقى بين اللغة والفكر، حين يكون التّماسُ بينهما محطّةَ عبور، يفعّل الواحد منهما الآخر بإشعاع خفيّ تتّضح قوته عندما يطلع علينا التعبير المنشود في حلّته الجديدة.
نهاد الموسى، إذن، تراثيّ حداثيّ، لا يرى في المزاوجة بين الاثنين تناقضاً، فهو لا يرى في الحنين إلى الماضي "دافعاً للتعصّب إلى التراث، ولا في الانبهار بالحاضر مسوّغاً للرحيل عن الماضي ونبذ التراث". وينقل عن الشاعر محمود درويش وصفه له "أكاديميّ يضفي أناقةَ على الأكاديمية".
في بعض العزاء برحيله إن شيخ النحاة أُنصف قبل رحيله، مع أنه كان زاهدا بالشهرة والمناصب، ألّفت عنه رسائل علمية وملفات للصحف والمجلات وكُرّم في غير جامعة ومجمع. وعكس ذلك وفاء أجيال من الطلاب له وإجلالهم قدره وعلمه. وقد لمست ذلك بعيني من تعامل طلابه معه في زيارته الأخيرة الدوحة التي أطلق فيها "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية"، وكان عضوا في مجلسه العلمي. تنوّعت أجيال الطلاب بين من درسوا مناهجه في المدرسة ومن درسوا علي يديه في مختلف المراحل الجامعية. من عاملين في معجم الدوحة إلى أساتذة في جامعة قطر إلى إعلاميين منهم أحمد الشيخ رئيس تحرير الجزيرة الأسبق والإعلامية القطرية الدكتورة إلهام بدر السادة.
حضر إلى الدوحة رغم مشقة السفر عليه وخذلان جسمه له "وإذا كانت النفوس عظاما تعبت في مرادها الأجساد"، وفاء للغة وعلمائها وطلابها، وكان فخورا بالإنجاز الذي تحقّق في قطر، وكانت وقتها تحت الحصار، و كان ساخرا ومستغربا من تشويش الإمارات على الجهد العلمي ومحاولة استقطابه لمعجم منحول، مع أن المفروض أن يظلّ العمل البحثي والعلمي بعيدا عن الصراع السياسي. نعاه المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، عزمي بشارة، بوصفه "علما بارزا من أعلام اللغويين المعاصرين، يشهد علي ذلك ما تركه من مصنّفات في النظرية النحوية العربية وسبل تطويرها، وما زرعه في طلابه الكثر من حبّ العربية ودراستها انطلاقا من تراثها الضخم مع الإصرار على مقاربتها مقاربة علمية وموضوعية ومجدّدة "، مشيدا بدوره في" إرساء الأسس الأكاديمية الصلبة التي قام عليها المعجم".
برحيله خسرت العربية علما من أعلامها، وعائلته الصغيرة والعائلة الكبيرة من الطلاب والزملاء، تماما كما خسرته الجامعة الأردنية ومعجم الدوحة وغيرها من مؤسسات، والعزاء في الكثير الذي بقي إرثا من علم معجما وكتبا وأبحاثا وعلماء تخرّجوا على يديه وطلبة علم يزيدون ولا ينقصون. وداعا أبا إياس عالما ووالدا محبّا لن تغيب عن ذاكرتي، كما والدي الذي سبقك في الرحيل إلى رحمة الله.
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.