في وداع عهد التهريج

07 نوفمبر 2020
+ الخط -

للرئيس الأميركي المترشح لانتخابات الرئاسة في بلده، دونالد ترامب، "فضل" على منافسه جو بايدن، فنموذجه الرئاسي غير المسبوق لاقى نفور واستياء نسبة عالية من الأميركيين، لا تقتصر على أعضاء الحزب الديمقراطي ومناصريه. وفي استطلاع متأخر للرأي، ظهرت نتيجة مفادها بأن رفض ترامب كان وراء منح ثُلث أصوات المقترعين لبايدن، وعلى قاعدة "الضد يُظهِر حسنَه الضدّ". مع ذلك، المفارقة قائمة، أن ترامب حاز قدرا كبيرا من الأصوات يضارع التي نالها سلفه الديمقراطي باراك اوباما. وذلك يعدّ، إن نجح هذا الرجل، في تمرير رسالةٍ مفادها بأن شخصا على شاكلته، يمكنه أن يصل إلى البيت الأبيض، ما غذّى الطموحات الفردية غير الواقعية لدى كثيرين. شخص يمتدح نفسه على مدار الساعة، ويشتم المسؤولين في إدارته ما إن يختلف معهم، أو إن لم يتوافق مزاجه معهم. وكما أبدى كراهية متزايدة، أخيرا، تجاه مدير المعهد الأميركي للأمراض المعدية، أنطوني فاوتشي، لغير ما سبب، سوى أن ترامب نفسه لا يملك مناقشة هذا المسؤول في ما يصرح به مما يدخل في اختصاصه، علما أنه ليس مطلوبا من الرئيس إثارة الجدل مع مسؤول طبي كبير، غير أن ترامب توعد فاوتشي بإقالته حالما يعود إلى البيت الابيض، عسى أن يصدق عليه بيت الشعر العربي: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً/ أبشر بطول سلامة يا مربع.

سوف تستغرق النتائج النهائية وقتا، وقد عمل ترامب على تكرار إعلان فوزه، بعد ساعات من إغلاق صناديق الاقتراع، وسوف يعمل على إعاقة إعلان فوز منافسه بكل السبل المتاحة، مثل المطالبة بوقف الفرز أو إعادة الفرز، بدلاً من المسارعة إلى تهنئته، كما تقضي بذلك روح التنافس الرياضية، وكما يفعل سياسيون ومتنافسون محترمون هنا وهناك. فيما تسود مخاوف من اندلاع أعمال عنف تتهيا لها مليشيات مسلحة، تدين بالولاء لترامب أو يبادر لها ترامبيون متعصبون من زمرة اليمين الفاشي، تسوؤهم مغادرة محبوبهم، الملياردير ونجم تلفزيون الواقع، موقع الرئاسة. وقد قام بعضهم ببروفات على ذلك، في موجة مظاهراتٍ صغيرة. إضافة إلى ما شهده سوق الأسلحة من إقبال هائل على اقتناء مزيد من الأسلحة الفردية. وقد تبدّت المؤسسات الأمنية، وهي على أتم الاستعداد لتطويق هذه المخاطر، ووضع حدّ لها في مهدها.

لاحظ مراقبون في الولايات المتحدة أن بلادهم لم تشهد مثل هذا الإقبال على الانتخابات من المقترعين منذ 120 عاما، إذ اقترع أكثر من 150 مليونا

لقد ظل العالم مشدودا منذ الثلاثاء الماضي، 3 نوفمبر/ تشرين الثاني، إلى مجريات الانتخابات الأميركية الرئاسية (وبما لا يقارن بانتخابات الكونغرس التي جرت في تلك الأثناء، بالتزامن). وقد لاحظ مراقبون في الولايات المتحدة أن بلادهم لم تشهد مثل هذا الإقبال على الانتخابات من المقترعين منذ 120 عاما، إذ اقترع أكثر من 150 مليونا، فترامب قد نجح في فرض حالة من الانقسام المجتمعي، والاستقطاب السياسي الحاد والعرقي والفئوي، والمشخصن. ولهذا بدا الاندفاع الكثيف إلى المشاركة في الانتخابات أقرب، من حيث الشكل والحالة النفسية المواكبة، إلى الانشداد لمباريات كأس العالم بما يسود فيها من حُمّى، ومن روح العناد والتحدّي والتعصب الانتقام، مع فارق أن الجمهور هنا يصنع النتيجة، ولا يكتفي بانتظارها.. 

نعت ترامب خصمه بايدين بـ "الرجل النائم"، علما أن يقظته لم تفد العالم بشيء، وهو الذي يفهم السياسة جني أرباح مالية للدولة، وتحقيق أمجاد شخصية للرئيس وعائلته

ويجري التطلع، في هذه الغضون، إلى البديل جو بايدن، الذي حرص ترامب على تشويه صورته، بنعته بـ "الرجل النائم"، علما أن يقظة ترامب لم تفد العالم بشيء، وهو الذي يفهم السياسة جني أرباح مالية للدولة، وتحقيق أمجاد شخصية للرئيس وعائلته.. على خلافه، يتقدّم بايدن رجلا متزنا يتمتع بشعور عالٍ من المسؤولية، ويمتلك حس التعاطف، ولا يثير مشاعر حشدٍ من المؤيدين المصفقين في زاوية أحد الشوارع، فحتى مع اقترابه من الفوز ظهيرة الخميس، حافظ على وقاره، ولم يصدح بأناشيد النصر. فيما أخذ ترامب يجنح إلى الصمت مع اتضاح صورة أشباح الهزيمة أمام ناظريه. ومن الجلي أن عهد التهريج في واشنطن في طريقه إلى الانقضاء، بما لذلك من انعكااسات، فالإيقاع السياسي الأميركي ينعكس على العالم، ويسهم في تشكيل إيقاعه، وكثير من المباذل وقعت في عالمنا على وقع الاضطراب الأخلاقي الذي وسم جانبا من أداء قيادة لدولة العظمى، وهذا من دون تنزيه دول كبيرة أخرى عن التسبب بحالة الانحدار الأخلاقي التي تطبع السياسة الدولية.

وفي حال توالي تقدّم جو بايدن (ونائبته كامالا هاريس) نحو البيت الأبيض، سوف يكون أمام الرئيس (77 عاماً) مهمة معالجة جروح الأمة الأميركية بوضع حد للتوتر العرقي وبسط العدالة في أروقة الشرطة الأميركية، بما في ذلك وضع رجال الشرطة تحت المساءلة أولا بأول، وتثقيفهم بمعاني عمومية القوانين والمساواة بين البشر، وطمأنة المهاجرين إلى أوضاعهم، ووقف موجة الكراهية، ووضع الجماعات المسلحة تحت المراقبة الدائمة، ومنع تهديدها أمن الأفراد والمجتمع والمؤسسات. 

وجد اليمين الشعبوي المتطرّف سنداً وعضداً، إن لم يكن أباً روحياً، في الرئيس ترامب

لقد وجد اليمين الشعبوي المتطرّف سندا وعضدا، إن لم يكن أبا روحيا، في الرئيس ترامب، الذي غضّ النظر عن تجاوزات جماعات هذا اليمين، بأمل أن يتلقى دعمها في الانتخابات وهذا ما حدث. وإذا مُني بالخسارة وغادر البيت الأبيض، فإن ترامب قد يواجه قضايا باعتباره مواطنا عاديا ورئيسا سابقا للبلاد، وليس أفضل من هذه الجماعات في نشر توترات اجتماعية وأمنية للتغطية عليه وصرف الأنظار عنه، وعلى قاعدة التشكيك بسلامة العملية الانتخابية والطعن في الشارع بنتائجها، وتصوير حصانة ترامب أنها غير قابلة للمساس بها، وأنها سارية إلى ما لا نهاية.

وإلى ذلك، سيواجه بايدن تحدّي انتشار جائحة كورونا، وهي تركة ثقيلة لعهد ترامب، وإن كانت المسؤولية عن انتشار الوباء لا تقع على جهة واحدة، مع الاصطدام بمعادلة الاقتصاد والصحة العامة. وفي واقع الحال، فإن النجاعة في التوصل إلى لقاح (ثم إلى علاج)، وتمكين أكبر نسبة من البشر من تناول الطعوم يستحق أن يشكل طموحا واقعيا لدى الرئيس الديمقراطي، وقد يقترن هذا الإنجاز الطبي المأمول والمنتظر ببايدن وفاوتشي ومسؤولين آخرين. مع الأخذ في الاعتبار أن جانبا رئيسا من حملة بايدن الانتخابية تركز على جائحة كورونا، وسوف يكون الأوان قد حان في فبراير/ شباط من العام الجديد لتحقيق إنجاز ملموس.