قانون الإعلام الإلكترونيّ في الجزائر .. إفراز نظام يرفض التغيير
"مَرْسُول فاطمة"، هو أوّل ما تبادَرَ إلى ذهني، وأنا أقرأ أوّل مرّة أوّل مرسوم تنفيذيّ خاص بالمواقع الإخباريّة الإلكترونيّة في الجزائر، المنشور في الجريدة الرّسميّة (العدد 70)، الصّادرة في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، وهذا للدّور الذي رسمه للقائمين على مواقع الإعلام الإلكترونيّ، والذي اختصره في نقل الأخبار، والتّبليغ عن كلّ مخالفةٍ يرتكبها الموقع، وهو دور لا يختلفُ كثيرًا عن دور "مرسول فاطمة" في القصيدة الشّعبيّة التي تحمل العنوان نفسه، لصاحبها محمد بن سليمان الفاسي، الذي حوّل في ثقافتنا الشّعبيّة كلّ رجلٍ ينقل الأخبار إلى "مرسول فاطمة".
يعكسُ أيّ قانون طبيعة النّظام السّياسيّ لأيّ دولة. وعلى الرّغم من أنّ الحَراك الشّعبيّ الذي تفجّر في شوارع الجزائر، 22 فبراير/ شباط 2019، لم يكن يطالب فقط بإصلاح النّظام السّياسيّ، وإنما كانت في مقدّمة مطالبه إصلاح المنظومة الإعلاميّة من خلال تعزيز حرّية الإعلام، وتشجيع التّعدّديّة والتّنوّع، وتخليص قطاع الإعلام من الانتهازيين والوصوليين الذين مارسوا سياسة التّضليل والتّعتيم الإعلاميّ، بعدما اختصروا الحَراك الشّعبيّ في بعض المطالب الاجتماعيّة من دون ذكر غيرها.
كلّ مواد المرسوم تنظر بعين الرّيبة والشّك إلى مواقع الأخبار، وتترصّد وقوعها في أيّ خطأ لمعاقبتها
بعد عام وتسعة أشهر من بداية الحراك الشّعبي، تمخّض النّظام فولد مرسومًا تنفيذيًا، كان بمثابة إفراز طبيعيّ لطبيعة النّظام السّياسي الذي يرفضُ التّغيير، على الرغم من تبنّيه "الحراك الشّعبيّ المبارك"، وجعله مرجعا لإحداث عمليات تغيير جذريّة في بنية نظامٍ انقلب على نفسه ليُصلِحَ ذاته.
مرسوم نفوذ
تكشف قراءة قانونيّة متأنّية لمواد هذا المرسوم التّنفيذيّ أنّه لبسط نفوذ سلطة على قطاع الإعلام الإلكترونيّ أكثر ممّا هو مرسوم لضبطه وترقيته، فماذا يمكن القول عن مرسوم تنفيذيّ من 42 مادّة، ورد فعل "يتعيّنُ" في بداية 8 مواد، وفعل "يجبُ" في بداية 13 مادّة، مع العلم أنّ فعل "يتعيّن" لغة يعني "يجب". وإذا أضفنا المادّة 22 التي تبدأ أيضًا بـ "يلزم"، تصبح لدينا 22 مادّة من المرسوم التّنفيذيّ، أيّ أكثر من نصف مواده تبدأ بـ"يتعيّن" أو "يجبُ". أمّا بقية المواد، فتبدأ بـ"يخضع"، أو "تتمّ مراقبة"، أو "يتمّ سحب"، أو "دون الإخلال"، أو "في حالة الإخلال"، أيّ كلّها مواد تنظر بعين الرّيبة والشّك إلى مواقع الأخبار، وتترصّد وقوعها في أيّ خطأ لمعاقبتها.
انتظر أهل الإعلام في الجزائر هذا المرسوم بفارغ الصّبر، على أمل أن يُصلِحَ ما هو موجود، فإذا بهم يتفاجأون بصدوره لترسيخ ما هو قائم، ويعزّز تكريس احتكار الدّولة من خلال منح التّراخيص، ويزيد من القيود على حرّيّة الإعلام، ما يعيد طرح الجدال بشأن نيّة السّلطة في التّوجّه نحو دَمَقْرَطة القطاع بشكلٍ يحقّق حرّيّة أكبر للتّعبير، تسمح بتأسيس التّعّدديّة والتّنوّع، باعتبارها من أهمّ دعائم الدّيمقراطيّة التي تجعل من الإعلام وسيلةً ناجعةً لمراقبة أعمال الحكومة. لهذا، لا يمكن انتظار الكثير من مرسوم تنفيذيّ يكرّس رقابة الحكومة على الإعلام، في حين كان من المفروض أن يكونَ العكس.
مواد المنع
تؤكد قراءة متأنّية للمرسوم التّنفيذيّ المتعلّق بالصّحافة الإلكترونيّة أنّ الجزائر لم تتحرّر بعد من زمن قيل لمواطنيها إنّه ولّى، لعدم تخلّص هذا المرسوم من المفاهيم الفضفاضة التي وردت في القانون العضويّ للإعلام (12 يناير/ كانون الثاني 2012)، والقانون المتعلّق بحماية الأشخاص الطّبيعيين في مجال معالجة المعطيات ذات الطّابع الشّخصيّ (10 يونيو/ حزيران 2018)، حيث بقيت كما هي، من دون تدقيق أو توضيح، حتى تغلق كلّ أبواب التّأويلات المحتمَلة.
منع امتلاك أكثر من موقع واحد، أو المساهمة في مواقع أخرى، وهو بهذا لا يمنع الاحتكار
في المادّتين 2 و3 من المرسوم التّنفيذيّ، يُلاحظّ كأنّ واضع المرسوم وجد صعوبة بالغة في تحديد مفهومي "نشاط الإعلام" و"خدمة الاتّصال"، ففي الأوّل يحيلنا إلى المادّتين 67 و69 من قانون الإعلام (رقم 12 - 05 المؤرّخ في 12 يناير/ كانون الثاني 2012)، الذي ينصّ على أنّ نشاط الإعلام هو كلّ خدمة اتّصال مكتوب، وكلّ خدمة اتّصال سمعيّ بصريّ، ثمّ يتدارك عجزه في ضبط المفهومين باستعمال عبارة "في جميع الأحوال" لاستثناء الرّسائل الإشهاريّة والإعلانات.
بخصوص الشّروط الواجب توفّرها في المدير المسؤول عن جهاز الإعلام عبر الإنترنت الواردة في المادّة 5، يُستنتج أنّ هذا المرسوم التّنفيذيّ لا يبحثُ عن مدير نظيف فقط، إنّما عن مدير "مطيع"، باعتبار أنّ أيّ صحافيّ احترف الإعلام على الأقلّ مدة ثلاث سنوات من المحتمل جدًا أن يتعرّض لعقوبة القذف، وبالتّالي يُمنَع من تأسيس أيّ موقع. والمشكل الأكبر أنّ هذا المرسوم لم يتطرّق بتاتا إلى الصّحافي الذي صدر في حقّه حكم ورُدّ إليه الاعتبار: هل يحقّ له تأسيس موقع أم يُحرَم مدى الحياة؟
تفرض المادة 6 على الموقع الإلكتروني بأن تكون استضافته موطّنة حصريًا ماديًا ومنطقيًا في الجزائر بامتداد اسم النّطاق (dz)، هو تقييد للحرّيّات في زمنٍ كسرت فيه العولمة كلّ الحدود، واختصرت فيه الكرة الأرضيّة في مساحة هاتف نقّال ذكيّ. وتمنعُ المادّة 8 الشّخص من امتلاك أكثر من موقع واحد، أو المساهمة في مواقع أخرى، وهي بهذا لا تمنع الاحتكار، بقدر ما تمنع الاستثمار في المواقع الإلكترونيّة التي تحوّلت إلى اقتصاد كبير، حيث تحرمها من أن تكبر وأن تتوسّع، ولا تشجّع أيّ رجل أعمال على الاستثمار في هذا القطاع. وتحدثت المادّة 9 عن سلطة أطلقت عليها اسم "سلطة مكلّفة بالصّحافة الإلكترونيّة، أو السّلطة المكلّفة بخدمة السّمعيّ البصريّ عبر الإنترنت"، وهي سلطة لا وجود لها أصلاً في قانون الإعلام أو قانون السّمعي البصري، فكيف ينصّ هذا المرسوم التّنفيذي على مادّة تسهر على تطبيقها سلطة لا وجود لها قانونًا؟ ويعاد ذكر هذه السّلطة في المواد 21 و22 و27، أيّ أنّ هناك مواد من هذا المرسوم ستبقى معطّلة إلى غاية إنشاء هذه السّلطة. للتذكير فقط، نص قانون الإعلام الصّادر في 2012، في مادته 40، على إنشاء سلطة ضبط الصّحافة المكتوبة التي ما زلنا نجهل تاريخ ميلادها.
غاب عن واضع المرسوم أنّ الإعلام الإلكترونيّ ليس بحاجة إلى محل أو مقرّ اجتماعيّ الذي حوّلته التكنولوجيا إلى هاتف محمول أو لوحة إلكترونية
تُجبر المادّة 12 المدير المسؤول عن جهاز الإعلام عبر الإنترنت على أن يوفّر لرواد الموقع فضاءات للمساهمة خاضعة للإشراف، وهي مادّة توحي بأنّ لواضعها معرفة ضيّقة بمواقع أخبار كثيرة تمتنع عن توفير مساحة لزوارها من أجل التّعليق أو الرّدود أو المساهمة، حتى يبقى الموقع موقعا حصريًا لنشر الأخبار، وحتى يختلف كلّ الاختلاف عن مواقع إخباريّة تحوّلت إلى أشبه بمواقع التّواصل الاجتماعيّ. وتطالبُ المادّة 22 المؤسّسة المالكة لجهاز الإعلام عبر الإنترنت بتقديم السّند القانونيّ لشغل المحلاّت، وغاب هنا أيضًا عن واضع هذا المرسوم أنّ الإعلام الإلكترونيّ ليس بحاجة إلى محل أو مقرّ اجتماعيّ الذي حوّلته التكنولوجيا إلى هاتف محمول أو لوحة إلكترونية أو جهاز كمبيوتر صغير، وأنّ عنوان الشّركة ليس إلا عنوان بريدها الإلكترونيّ. وتنص المادّة 24 على أنّه تتمّ مراقبة صحّة المعلومات المتضمَّنة في التّصريح خلال أجل أقصاه ستون يومًا، ابتداء من تاريخ إيداع التّصريح. وفي المادّة 30، يجب أن يكون أيّ رفض لمنح شهادة التّسجيل مسبّبا، ويجب أن يبلّغ قبل انتهاء الآجال المحدّدة. لكن هذا المرسوم لا يوضّح الأبواب التي على طالب التّصريح طرْقها في حالة ما إذا لم يتلق الرّد بالرّفض أو القبول بعد ستين يومًا، وهذه حقيقة عاشها إعلاميون كثيرون في السّابق، مثلما عايشوا حقيقة استلام الجهات المعنية للتّصريح، وتقديم مجرّد ورقة بيضاء صغيرة عليها رقم ملف طلب التّصريح عوض تسليم أيّ وصل. وبخصوص الطّعن أمام السّلطة المكلّفة بالصّحافة الإلكترونية في حالة رفض منح التّصريح، فإنّه من المتعارَف عليه، أنّ الطّعن في قرار إداريّ لدى الإدارة نفسها لن يجدي نفعا، على رأي المثل "إذا كان خصمك القاضي، فمن تُقاضي". وعليه، المستحسن الذّهاب مباشرة إلى الجهات القضائيّة. تعتبر المادّة 26 شهادة التّسجيل غير قابلة للتّنازل بأيّ شكل، وهذه النّقطة بالذّات تطرح إشكالية كبيرة خاصّة ببيع عناوين الإعلام، وليس المواقع فقط، وتشكّل عقبة كبيرة أمام الاستثمار في قطاع الإعلام والاتّصال، حيث لا تشجّع أيّ رجل أعمال على التّفكير في دخول هذا العالم.
يخوّلُ المرسوم السّلطة المكلّفة بالإعلام الإلكتروني التّدخّل في السّياسة التّحريريّة للمواقع، ويخدم السّلطة أكثر ممّا يخدم الإعلام
وتطرّقت المادّة 29 إلى التّوقّف النّاجم عن الأعطال التّقنيّة والهجمات الإلكترونيّة، ولم تتطرّق إن كان موقع الأخبار، له حقّ تغيير المستضيف في حالة ما إذا كان هو مصدر هذا التّوقّف، والانتقال إلى آخر. وتناولت المادّة 35 نقطة جدّ مهمّة، تتمثّل في مسألة التّصفية القضائيّة، وهي مادّة لم تحلّ مشكلا أبقى القضايا معلّقة، أو من دون حكم قضائيّ عادل ومنصف، فمثلاً في حال اختلاف الشّركاء، ورغبة صاحب التّسجيل في الانسحاب من الشّركة، أو في حالة وفاته، ويريد بقية الشّركاء الاحتفاظ بالموقع، هل يعني هذا إلغاء التّسجيل وتوقيف الموقع، ورمي العمال في عالم البطالة وحرمان المتلقّين من حقّهم في الإعلام الذي يكفله الدّستور؟ بالأخصّ، إذا كان المساهمون في الشّركة لا يملكون مثلاً خبرة ثلاث سنوات في ميدان الإعلام والاتّصال.
عادات حليمة
يُثْبِتُ هذا المرسوم التّنفيذيّ أنّ حليمة تأبى دائمًا التخلّي عن عاداتها القديمة، حيث لم يختلف، في مضمونه، عن بقيّة القوانين الإعلاميّة السّلطويّة التي لا توفّر الإطار القانونيّ لدَمَقْرَطَةِ منظومة الإعلام، إذ لم يتطرّق أصلاً لحقّ المواطن في الاتّصال، ولم يوضّح كيفية النّهوض بهذه المواقع وترقيتها، حتى نشجّعها على تقديم خدمة عموميّة في المستوى المأمول، وبالتّالي تتمكّن من القيام بوظائفها الأساسيّة.
أغلب مواد المرسوم من وحي الجمهوريّة القديمة، على الرّغم من أنّ نظام الرّئيس عبد المجيد تبون بشّر بالجمهوريّة الجديدة
يخوّلُ هذا المرسوم للسّلطة المكلّفة بالإعلام الإلكتروني التّدخّل في السّياسة التّحريريّة للمواقع، ويخدم السّلطة أكثر ممّا يخدم الإعلام، انطلاقا من فكر سلطويّ، مفاده بأنّ من يتحكّم في الإعلام يتحكّم في النّظام العامّ وفي استقراره. وبالتالي، فإنّ أغلب مواده هي من وحي الجمهوريّة القديمة، على الرّغم من أنّ نظام الرّئيس عبد المجيد تبون بشّر بالجمهوريّة الجديدة. وأسوأ ما في هذا المرسوم أنّه يتعامل مع مؤسّس الموقع على أساس أنّه متّهم قبل أن تثبتَ إدانته، وضيّقت الخناق على كلّ من يفكّر في الاستثمار والمساهمة في إنشاء أيّ موقع للصّحافة الإلكترونيّة، كما يقلّل كثيرًا من المصادر التي يمكنها تمويل المواقع الإلكترونيّة وتسديد مصاريفها، ما يحكمُ عليها بالبقاء متخبّطة في مصاعبها المادّيّة، ويُعيقها عن التّطوّر وكسب ثقة المُعلنين، كما يفتقرُ إلى رؤية واضحة لإطار ينظّم عمل صحافيي هذا القطاع ويحفظ حقوقهم، ما يدفع الصحافيين الأكفاء إلى عدم التّفكير في الالتحاق بالصّحافة الإلكترونيّة في الجزائر التي تعاني من ضعف في الشّكل والمحتوى، إلى درجة أن أصبحت صورة طبق الأصل نتيجة استنساخها، وبمستوى رديء الأخبار والصّور نفسها، وتُنسبها لنفسها من دون أدنى أمانة.
قال وزير الاتّصال الجزائري، عمار بلحيمر، إنّ الجزائريين ينقسمون أمام وسائل الإعلام يوميا إلى 18 مليون مشاهد، و17 مليون مستعمل الإنترنت، و15.5 مليون متصفّح شبكات التّواصل الاجتماعيّ، وثلاثة ملايين مستمع، و2.6 مليون قارئ، ما يدلّ على أنّه على دراية تامّة بأنّ الملايين من الجزائريين يستقون أخبارهم من صفحات التّواصل الاجتماعي، عوض البحث عنها في مواقع إخباريّة، وهذا يعني أنّ المجهودات التي ستبذلها سلطة الإعلام الإلكترونيّ مستقبلاً في تعقّب صفحات التّواصل الاجتماعي ومطاردتها ستكون أضعاف المجهودات التي ستبذلها لترقية مواقع الصّحافة الإلكترونيّة.