قتل الخضرة لملء السدّ
يشكو كلُّ من يسير في شوارع مصر، خصوصاً القاهرة والمُدن الكُبرى، غياب اللون الأخضر، وانحسار المساحات الشجرية. وازداد شعور المصريين بوطأة اكتساح المباني والتشكيلات الإسمنتية مع ارتفاع درجات الحرارة بشكلٍ غير مسبوق هذا الصيف. وهي بالفعل ظاهرة لافتة أن تتسلّل يد القطع والذبح إلى كلّ ما هو أخضر، روحاً وشكلاً. فيما تتفاقم مُعدّلات الاحترار، وتتفاقم معها حالة الاختناق العام، التي أصبحت مُتَفشّية بين المصريين، وخصوصاً، الطبقة التي كانت مُتوسّطة.
ترتكب الحكومة المصرية جريمة ذبحٍ مُكتملة الأركان لكلّ ما هو أخضر في البلد. بدأت الجريمة قبل عامين، بتعليمات مُشدّدة لقاطني المدن الجديدة بعدم زرع أي مساحات خضراء في محيط العقارات أو الفراغات بينها. وسرعان ما امتدّ الأمر إلى إزالة مباشرة لما هو قائم من مناطق خضراء، وذلك بواسطة الأجهزة المحلّية المُشرفة على التجمّعات السكنية الجديدة. رغم أنّ هذه المساحات جزء أصيل من المُخطّط العمراني لأي تجمّع عمراني جديد، والأكثر أهمّية أن الأجهزة ذاتها هي التي زرعتها.
ثم انتقلت عملية اغتيال الأشجار والمزروعات إلى بُقعٍ أخرى، تشمل بصفة أساسية الحدائق العامة والمُتنزهات، خصوصاً ذات المساحة الكبيرة نسبياً، التي كانت، على قلّة عددها، تُمثّل مُتنفّساً طبيعياً للمصريين، وتعمل رئة تخفّف من اختناق عواصم المحافظات بتلوّث الهواء والعوادم والاكتظاظ السكاني. وكانت البداية في منطقة المُنتزه بمحافظة الإسكندرية، وهي إحدى أشهر وأقدم المتنزهات الواسعة والتاريخية في مصر، إذ اقتلعت أشجار نادرة وجرّفت مساحات خضراء حلّت محلّها أرضيات إسمنتية قاسية.
يتكرّر اغتيال الخضرة في القاهرة، عبر القضاء بوحشيّة على المساحات الخضراء، وأعداد من الأشجار، في حديقتَي الحيوان والأورمان، وهما في قلب القاهرة، ويفصل بينهما طريق طوله أقلّ من كيلومتر واحد. وكان المصريون يقصدانهما من مختلف المحافظات للنزهة والاستمتاع بالحيوانات والخضرة بالأولى، والنباتات النادرة، والمساحات المفتوحة، التي تتخلّلها ممرّات مائية طبيعية في الأخيرة.
وفي يوليو/ تمّوز من العام الماضي (2023)، ومن دون مُبرّر ولا إشعار، شرعت الحكومة المصرية في تنفيذ مشروع قالت إنّه لتطوير الحديقتَين وربطهما معاً بنفق. رغم أنّ لكلّ منهما طابعاً مميّزاً وطبيعة مختلفة، وزوّاراً مُختلفين أيضاً. وقبل أيام، انتشرت صور لماكينات قصّ الأشجار وهي تعمل في حديقة الحيوان. ومثلها في حديقة الميريلاند التاريخية في حي مصر الجديدة، التي كانت تضمّ نادي سباقات الخيل خلال عهد الملكية.
وقد ردّت السلطات المصرية على غضب المصريين من تلك الممارسات، إلا أنّ محاولتها تفنيد الانتقادات جاءت بمنطق الإنكار وليس النفي، أو أنّ ما يجري "ليس اغتيالاً وإنّما قتلاً". فقد انحصر الردّ الرسمي في أنّ الأمر ليس إزالة للأشجار أو قطعاً لها، وإنّما هو فقط تهذيب وتشذيب واستقطاع جزئي لما فسد منها (!) ولا تشير بالطبع إلى ضرورة توفير كلّ نقطة مياه اقتطعتها إثيوبيا من حصّة مصر.
لا تقف يد قتل الجمال وذبح الخضرة عند الحدائق والمساحات الخضراء الواسعة، بل تطاول، أيضاً، الأسوار الشجرية المُحيطة ببعض الأبنية والتجمّعات السكنية. بينما تعجز تلك اليد عن الامتداد إلى أي من المنتجعات الفاخرة، سواء في القاهرة أو في المدن الساحلية.
وفوق بشاعة هذا القتل الممنهج للأكسجين وتدمير مُتنفّسات المواطنين، تضيف يد البطش إليها قبحاً إضافياً بزرع أحجار وأسوار تحوّل كلّ أخضر بروح وجمال وحياة كتلاً خرسانية صمّاء رمادية اللون غبيّة المعنى والمظهر. ولا عزاء للمصريين في حدائقهم وخضرتهم، فمياهها مطلوبة لملء سدّ النهضة. ولا حاجة لهم بأجواء لطيفة رطبة في حياة جافّة ومعيشة على الكفاف.