قراءات رمضان المؤجّلة دائماً
من سنوات، وأنا أتحنّث في قراءة الجبرتي كاملاً، وفي كلّ سنة أفشل، سوى قراءة نثاراتٍ تأخُذني إلى أماكن بعيدة عن الجبرتي، مرّة إلى حوض النيل، ومرّة إلى أهل فرنسيس، ومرّة إلى حجر رشيد، ثم أذهب بعيداً إلى شامبليون، ومرّة إلى ميناء دمياط ونشاط تجارة إلى الشام وفلسطين، وأنسى الجبرتي في كلّ سنة.
القراءة، تلك الغنائم والأغنام الشاردة عنّا في الكتب، وأحياناً تطاوعنا، وأحياناً نراها ترعى بعيداً عنا، فتتهيبنا وتختفي عنا، علّها ترعى داخلنا وتخاتلنا من دون أن ندرى، كي نزداد عطشاً وحرماناً مما نريد معرفته في الكتب.
في رمضان نفحةٌ ما من معرفة، كأن تجد نفسك مثلاً ضائعاً في طريق الحرير من دون أن تتاجر، ومن دون أن يكون معك ذلك المال، فتتسوّل هناك الحسن والشامات من عسل الكتب، وتعود أكثر حيرةً من الأول، أكثر حيرةً من العشّاق، تعود بحسرةٍ ما كنت تشتاقه هناك، وكان قريباً من خيمتك، لكنّه ضاع مع نجمك الخفيف.
في كل مرّة يضحك عليّ رمضان، وكأنّه يبعدني عن كنوزه عامداً، وكأنه ينصُب لي الشباك كي أظلّ غير عارفٍ بشيء أريد معرفته، كي أظلّ تائهاً وحائراً وفقيراً وحدي في ظلمة طريق الحرير.
في رمضان، تتبعثر روحي على ما أحبّه من كتب، كتب أشتاقها وأخادع نفسي وأقول سأكون قريباً من قلوبها وعيونها في رمضان، كمسافرٍ شغوفٍ لا يعرف مقصدُه، ويراه من بعيدٍ غائماً تحت أو فوق سحابة ما، فيداعب جدولاً هناك، ويظلّ بجواره يخدم مزار أحد أولياء الله، لا يعرفه، ولا يعرف بركاته، حتى تأخُذه العصافير إلى حقول وردٍ لا يعرف أصحابها، ثم يترك طريق الحرير ويظلّ في كهفٍ في أفغانستان، فتأخذه عيون الباشتونيات ويصاب بالعلّة، ويترك الكتب لخادم المزار، الكتب، ذلك السحر الذي يأخُذ بالمخيلة والألباب، ويسرقنا، كوقت، حتى من الأهل والعزوة، ونحاول أن نحصي تلك الأسرار وهي تموج في مخيّلاتنا، فتأخذنا إلى حيث لا نعرف.
متاهة الكتب لذيذة وموحشة وفاتحة الطرق للذات، ودائماً نرى على أبوابها هؤلاء المعطّلين لنا، كي نظلّ على ذلك العطش والحاجة لها من دون أن نشفي ذلك الغليل الكامن داخلنا، ومن دون أن نعرف سببه، علّنا خلقنا به بحثا عن المعرفة.
كتاب "اللاطمأنينة" للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، دائما أستند إليه في رمضان، وهذه من غرائب الكتب وغرائب دواخلنا أيضاً، ذلك الكتاب الذي رمى الحكمة في البحر بعدما فتّتها تماماً، ذلك الكتاب يجعلني مطمئنّاً على حالي، وراضياً بذلك النصيب من الدنيا بجوار حماماتي مهما كان حالي، وكأنني أزن بواخر العالم كله بجوار رأس الرجاء الصالح، وأرمي كل الذهب المهرّب من القارّات في قيعان السفن للبحر ثانية، وأنظر إلى وردةٍ نبتت بجمالٍ بجوار كتفي، وأقول ماذا تريد مني، وأنا صرتُ ذلك الكبير في السن، وأتساند حتى أرى نجمةً من هناك، ثم أغلق الشبّاك وأعود إلى الكتب، كي أكمل بقية البحث عن حظوظي.
الكتب والشمس أيضاً، والغيم يختفي ويظهر، فماذا يريد مني رأس الرجاء الصالح، وماذا تريد منّي الوردة، أو جزر روما التي غرقت في البحر من قديم الزمان بجنودها، أو حتى عيون ما كتبه الجبرتي، بعدما طارت أسرابُ حماماته حتى وصلت إلى ما بعد الهرم، بعدما بنى بيتاً جميلاً بجوار مسجد في قاهرة المماليك.
في رمضان أيضاً، "يحاوسني" ذلك الكتاب عن الشاعر أحمد رامي في أيامه الأخيرة، وكتاب آخر عن الراحلة أسمهان كتبته أميركية، وقد فتح عليها، على تلك الكاتبة، أبواب اللصوص من كتبة السير في الجامعات الأميركية والعربية، فعلّ ذلك من بركات عيون أسمهان السارحة في تلك الأنجم الغامضة.
في رمضان، أكون في شبه جزيرة من الحيرة كلما مسكتُ كتاباً وأخذني منه كتابٌ آخر، وأحياناً أنسى الاثنين وأعود إلى الجبرتي. لاحظ أنني كثيراً ما لا أصدّق خيالات الجبرتي وغيره من المؤرّخين، خصوصاً حينما أقرأ لهم ما يتعلق بالحكم الجامعة المانعة والتي تسيّر الممالك هنا أو هناك، لكن أحياناً ألتقط من بين أصابعهم حبّات الذهب وأداريها في طيّات أوراقي، إلى أن يأتي رمضان التالي وأنا على الحال نفسه، أرصّ أجزاء الكتاب. وفي العام التالي، أنفض عنها الأتربة وأطلق البخور في الغرفة، ومن بعيد حينما أفتح الشبّاك يأتيني صوتُ المسحّراتي، وهلال بعيد جداً لم أتبيّن بعد ملامحه من الشبّاك.