قرار قضائي يُلهب أجواء الانتخابات التركية
يرتدي الاستحقاق الانتخابي، النيابي والرئاسي، في تركيا 23 يونيو/ حزيران المقبل، أهمية استثنائية تتعدّى النطاق المحلي للحدث، وتجذب أنظار مراكز إقليمية ودولية في عالمنا واهتمامها. ويعود ذلك إلى الموقع الجيوسياسي لهذا البلد، وتأثير سياسته، بما يتجاوز الوضع في الشرق الأوسط، وهو الإقليم الأكثر تأثرا بهذه السياسة التي يقودها حزب العدالة والتنمية من خلال الرئيس أردوغان، ومن خلال الحكومة التي يقودها بنفسه وفق النظام الرئاسي الذي بات متّبعا منذ يونيو/ حزيران 2018، وفق استفتاء عام صادق عليه البرلمان آنذاك. وقد جاء الحكم الذي أصدره القضاء التركي في إسطنبول بحق رئيس بلدية المدينة، أكرم إمام أوغلو (52 عاما)، الأربعاء 14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ليدفع كثيرين داخل تركيا وخارجها للربط بين هذا القرار ومجريات الانتخابات المزمعة، وذلك لكون الرجل أحد المرشّحين "النظريين" لانتخابات الرئاسة عن حزب الشعب الجمهوري المعارض. وكان إمام أوغلو قد فاز برئاسة البلدية على حساب مرشّح حزب العدالة والتنمية، بن علي يدريم، في انتخابات عام 2019. وقد اعترض الحزب الخاسر على النتيجة، وقدّم التماسا بإعادة فرز أصوات المقترعين، واستجيب للطلب حيث تم تثبيت النتيجة عقب إعادة الفرز. على أن الفائز كان قد عقّب على قبول أعضاء هيئة الانتخابات بإعادة الفرز بأنهم "حمقى" أو "أغبياء". وإثر ذلك شرعت هذه الهيئة بتحريك دعوى قضائية ضده، بتهمة إهانة موظفين عامّين، وبدأ القضاء التركي بالنظر في الدعوى في يونيو/ حزيران الماضي، إلى أن أصدرت المحكمة المختصّة حكمها على الرجل بالسجن عامين وسبعة أشهر و15 يوما، وحرمانه من مزاولة العمل السياسي. وسوف يتسنّى للرجل البقاء في موقعه رئيسا لبلدية إسطنبول، بانتظار انتهاء درجات التقاضي التي تشمل قرار محكمة الاستئناف ثم حكم المحكمة العليا.
شهدت محاكمة إمام أوغلو استقطابا سياسيا وانتخابيا وإعلاميا
شهدت محاكمة إمام أوغلو استقطابا سياسيا وانتخابيا وإعلاميا، إذ توافدت قيادات وأعضاء من حزب الشعب الجمهوري، ومن الحزب الجيد بقيادة ميرال أكشينار، إلى أقرب نقطة من موقع المحكمة الجنائية الابتدائية التي نظرت في القضية، وأصدرت حكمها على إمام أوغلو، والحزبان من أبرز أحزاب المعارضة، ويتطلعان، مع أربعة أحزاب معارضة أخرى، إلى تقديم مرشّح مشترك للرئاسة لمنازلة الرئيس الحالي أردوغان وهزيمته. وبينما أعرب رئيس الحزب الجمهوري السياسي المخضرم، كمال كليتشدار أوغلو، عن رغبته بالترشح، فإن الحزب "الجيد" لم يتحمّس لهذا الترشيح، مؤثراَ أن يكون أكرم إمام أوغلو هو المرشّح عن الحزب. ومن شأن المصادقة على حكم الأربعاء الماضي أن تحرمه من فرصة الترشّح، أما في حال تبرئته فإن فرص ترشّحه تتزايد وتتزايد معها حظوظه بالفوز. ويربط معلقون أتراك بزوغ النجم السياسي لأردوغان بوصوله إلى رئاسة بلدية إسطنبول عام 1997، وتعرّضه، مثل أكرم إمام أوغلو، للحكم بالسجن في 1999، إثر إلقائه قصيدة ذات طابع ديني، وقد جرى زجّه في السجن في ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام، حيث أمضى فيه بضعة أشهر، وقد صدق عليه المثل "رُبّ ضارة نافعة"، إذ شقّ، بعد الحكم عليه والإفراج عنه، طريقه مع حزبه نحو التصدّر البرلماني والسياسي، ثم الرئاسي. وفي حال تبرئة إمام أوغلو، يتوقع مؤيدوه ومراقبون مستقلون أتراك أو لا يستبعدون أن تتكرّر معه سابقة أردوغان، في وقت تُظهِر فيه استطلاعات الرأي تقارباً في حظوظ كل من حزب العدالة وحليفه "الحركة القومية" من جهة، وأحزاب المعارضة الستة من جهة ثانية.
الحكم الذي صدر بحق رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، يعدّ على جانب من القسوة
سوف تعرف الأسابيع المقبلة جدلاً ساخناً بشأن الحكم القاسي على إمام أوغلو، والآثار السياسية والانتخابية التي تترتب عليه، فالمعارضة ترى في هذا التطور ذخيرة جديدة لتصعيد الحملة على ما تعتبره تضييقاً على حرية التعبير، وعلى تسييس القضاء. أما حزب العدالة وحليفه فينظران الى هذا الحكم أنه يثلم من صدقية المعارضة التي لا تحتكم إلى التنافس الحر، وتتجرّأ على المساس بهيئات الدولة، فيما من المقدّر أن يشتدّ، في هذه الأثناء، زخم التحضير للانتخابات الرئاسية. وبينما حزم حزب العدالة أمره على ترشيح أردوغان، فإن أحزاب المعارضة الستة لم تتفق بعد على مرشّح للرئاسة، وبينها من يقترح أن يتقدّم مترشّح ٌعن كل حزب على أن يُصار الى دعم مشترك للذي ينتقل إلى الجولة الثانية من الانتخابات. وفيما سبق لإمام أوغلو، وكذلك لرئيس بلدية أنقرة، منصور يافاش، أن طوى كل منهما قراره بالترشّح، نظرا إلى ترشّح رئيس الحزب الجمهوري بنفسه لهذا الاستحقاق، فإن ظروف محاكمة إمام أوغلو ترفع مجدّدا أسهمه للترشح في حال تبرئته. وبما أنه ما زالت هناك فسحة من الوقت غير محدّدة بعد، لانتهاء إجراءات التقاضي، فإن هذا الوضع سوف يثير بلبلة في أوساط حزب المعارضة الرئيسي. ويزيد من ذلك أنه في اليوم الذي صدر فيه الحكم القاسي على إمام أوغلو، برز مرشح إضافي عن حزب الشعب الجمهوري الذي ينتمي إليه إمام أوغلو، وهو رئيس بلدية هاتاي الكبرى التي تقع على الحدود السورية، لطفي سافاش الذي فاز مرّتين برئاسة هذه البلدية، وسبق له أن كان منضوياً في حزب العدالة والتنمية، ويُعرف بصلاته الجيدة مع جمهور المحافظين، نظراً إلى سجله في الحزب، كما يتمتع بروابط مع جمهور حزب الشعوب (الكردي) ومع جمهور العلويين.
ويبقى أن الحكم الذي صدر بحق رئيس بلدية إسطنبول يعدّ على جانب من القسوة بحق هذا السياسي الشاب، إذ إن ما نُسب إليه هو من قبيل الانفعالات أو التفوّهات الانتخابية التي تعرفها أحيانا مناسبات كهذه في شتى أنحاء العالم، وكان أدعى إلى مقتضيات العدل مطالبة الرجل بالتراجع والاعتذار عنها، بدل سوقه الى القضاء. ومما يخفف من وطأة الحكم في حال التصديق عليه، أن تعديلا دستوريا كان قد أجري في 2019 على الحكم المتعلق بالسجن، وقضى بأن "أي حكم لأقل من ست سنوات، فإنه لا يدخل بموجبه المحكوم إلى السجن، بل يتم فرض عقوبات بأشكال مختلفة عليه". والمأمول، في جميع الحالات، أن تنتظم الانتخابات بأقل قدر من التشنجات والتوترات، وأن لا تؤدّي في غمرتها إلى وقوع ضحايا سياسيين، وأن تجري في أجواء من حيدة هيئات الدولة ونزاهتها.