قصائد من غزّة

12 اغسطس 2022
+ الخط -

هل من أخبارٍ أخرى عن غزّة، أو من قطاع غزّة على الأصح، غير التي تتوالى عن حروبٍ عدوانيةٍ إسرائيلية على ناسها، وعن البؤس والحصار المقيميْن فيها، وعن مسيرات العودة الفاشلة، التي قتلت إسرائيل في أولاها ستين غزّيا، ولم نكترث لهول الفاجعة؟ الجواب: نعم. مؤكّدٌ أن المليوني فلسطيني هناك (دائما نحن هنا وهم هناك؟) يزاولون كل الحياة بتفاصيلها المتعدّدة، وليسوا منقطعين لانتظار الغارة تلو الغارة، ولا متفرّغين للموت والشهادة. يحدُث أن تُخبِرنا بعض الصحافات عن مهرجان سينمائي وأنشطة مسرحية ونزهات أسرٍ عند شاطئ البحر، وعن جامعاتٍ فيها كفاءاتٌ لافتةٌ في غير شأن. يحدُث انتباهٌ شحيحٌ إلى الناس في الرقعة الأشدّ كثافةً في العالم، والأضيق في فلسطين، والمنذورة لتمارين سلاح الجو الإسرائيلي، في نوبات القصف الدورية عليها، والمنسية عربيا إلا من بلاغياتٍ فاترةٍ في تعاليق موسمية وعارضة في الجرائد والفضائيات، عوين جديدُها في غضون جولة القتل الإسرائيلية الأسبوع الماضي هناك.

شيءٌ من هذا الكلام، أو مثله، يعبُر إلى الخاطر، كيفما اتفق، وأنت تلتقط كتاب "غزّة أرض القصيدة .. أنطولوجيا شعرية"، اختيار وتقديم محمد تيسير، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021)، ويضم 42 قصيدة لـ16 شاعرة وشاعر من قطاع غزّة، ثم قد ينتابُك شعورٌ ببعض حرجٍ من أنك لم تقرأ سابقا لأيٍّ من هؤلاء الشعراء، العشرينيين (قليلٌ منهم ثلاثينيون)، ولهذا أسبابٌ يطول شرحُها، الأهم هنا من الانشغال بها هو الغبطة التي تنتابك بعد مطالعة هذه النصوص التي يتبدّى فيها أن ثمّة نضجا ظاهرا لدى هؤلاء الشابّات والشباب في فهمهم الشعر، والأدب عموما، ذي السويّة الإبداعية طبعا، فهم، في غالبيتهم، يبادرون إلى كتابة قصيدة نثر، وواضحٌ أنهم مهجوسون بالتعبير عن أنا كلٍّ منهم، وإنْ أحيانا في صلتها بمحموعٍ عام. وغزّة، الحرب، الشهداء، العدوان، مفرداتٌ لا حضور مركزيا أو ثقيلا لها في نصوصهم هذه. إنما ثمّة المشاغل الإنسانية المحضة، الحب والاشتهاء ومراودة الأحلام والشعور بالزمن ومرور السنوات، وغير ذلك كثير مثل هذه الثيمات (لو يجيز لنا أهل النقد استدعاء هذه المفردة هنا). وفي الظلال، المنظورةٍ أو الخافية، ثمّة، أحيانا وليس دائما، قصفٌ يناوب بين حين وآخر، وثمّة حربٌ، وشهداء، وثمّة مجزرة.

تكتب منى المصدر، في قصيدتها "عبث التمنّي": هل من أحدٍ يجرؤ على قرص خدّي/ أمام سهوة النوم وسعار القصف/ هل من أحد هنا شجاعٌ بما يكفي/ كي يلعن الحرب المتخفية في خبزنا/ هل لي بنافذةٍ، أجمع بها غيم الغروب. ويكتب أحمد السوق (مواليد 1999) في قصيدته "كنت بانتظارك": الآن تحت القصف/ سنكون أبطالا،/ لكن عندما تنتهي الحرب/ سأدعوكِ إلى حفلة راقصةٍ/ وسنكون وحيدين/ لن تصطحبنا قذيفةٌ مباغتة/ ولن تفجعنا لوثة الطائرة. وتكتب ضحى الكحلوت (25 عاما) في قصيدتها "صور مع الحرب": وقف إطلاق النار، خروجٌ من الحرب، دخولٌ في أخرى، فالحربُ تعبرُنا وفي الداخل تجدُ أختا، من نارٍ واحدةٍ، لم تضع أوزارها، فلم تخرُج منّا. .. تشفّ هذه المقطوعات المختارة عما يؤشّر إلى أنفاس نصوصٍ غير قليلة في هذه الأنطولوجيا غير المسبوقة في خياراتها (واختياراتها بداهةً)، بشأن المنظور الذي يرى منه هؤلاء الشعراء الشباب الحربَ في غزة، الحرب التي لا يبدو ثمّة خلاص منها، فتعتني القصائد بأحاسيس أخرى، تتجاوز الخوف من الحرب والفقد والموت في أثنائها إلى خسران لحظات حبٍّ أو تأملٍ أو انتظار بعيدٍ ما.

تعرّفنا أنطولوجيا محمد تيسير، وهو شاعر وروائي، على مقطعٍ عريضٍ من لوحة كتابةٍ شعريةٍ جديدةٍ في فلسطين، في قطاع غزّة حيث استجدّت خصوصية فيه منذ أزيد من عقديْن، ولكن المرجّح أن "تمثيلية" هذه المختارات قد لا تكون وافيةً ربما، لكنها تبقى كاشفة، تضيء على مزاجٍ ملحوظٍ في طرائق الكتابة وحساسياتها الشعرية والجمالية.

تكتب إيلينا أحمد، في قصيدتها "لنرقص في خلوة الصدف": شمعتان في العتم/ منيرتان/ ذائبتان على بعضهما/ ينسال ماء احتراقهما في سياق المعنى/ ليكونا جملة مفيدة/ تصلح لأن تكون .. قصيدة. يكتب محمد عوض (25 عاما) في قصيدته "قولي لهم هنا ينام الحب": أيتها الطرقات، قولي للعابرين أن يمشوا حفاة/ درّبيهم على خفّة العدوِ/ على ملحك اللزج/ وكيف يزحلقون عليه خطاهم. .. هنا، كما في مقاطع رائقةٍ حقا للشعراء الآخرين، ما يدلّ على أن ثمّة شعرا في غزّة يشقّ معابرَه إلى العالم، يجرّب تمارينَه على أن يكون جميلا، وينجح فيما أظن. .. شكرا محمد تيسير.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.