قصة تهجير منسية
بيروت. حيّ المزرعة "الإسلامي"، بين العامين الثاني والثالث من الحرب الأهلية.
ذات ليل، في الجهة الشرقية من بيوت القرميد المواجهة لشرفتي، في الطابق الثالث، يخرج عويل، ثم صمت تام، فلا جمهرة ولا حشد ولا حتى إسعاف يُفْهمونني ما حصل في هذا الطابق. الضوء في هذا المنزل بقي مشتعلاً طوال الليل. شائعة الحيّ في الليلة نفسها قالت إن الذي جرى في هذا المنزل جريمة بسلاح كاتم الصوت، بحقّ عائلة مسيحية، بجميع أفرادها، إلا ابنتهم الشابة، التي كانت عند الجيران ساعة حصول الجريمة. ولكنني لم أصدّق. لا أريد ان أصدق الشرّ. أقرّر السهر طوال الليل. لعلّني أتقصّى الخبر الصحيح.
وفي بداية اليوم التالي، تحضر سيارة ينزل ركّابها إلى عتبة البناية. ويفهم أهل الحيّ أن هؤلاء يخصّون الطابق الثاني. بعد دقائق، ينزلون ويركبون سيارتهم. يخرجون من الحيّ، ويعودون إليه وخلفهم سيارة إسعاف، يصفّون بداخلها أربع جثث وينطلقون بسرعة، ترافقهم الناجية الوحيدة. العملية كلها لا تدوم أكثر من نصف ساعة. وتختفي العائلة كلها من الحيّ.
كل هذه التفاصيل، أفهمها وأنا جالسٌ على تلك الكرسي في الفارندا، أدخن السيجارة وأتابع أقوال الجيران وردود أفعالهم. وجميعُهم ليسوا على القلب نفسه. القليل منهم غير مبالٍ، أو ربما شامِت، بصمت. والباقي مقهور، غير مصدّق أن ما حصل جريمة، لن يتم بالتأكيد التحقيق فيها، ولا معرفة مرتكبيها، مثلها مثل جرائم الحرب، تأخذ إذنها من نفسها.
سميرة، في البداية، لم تكن متحمّسة كثيراً للهجرة، لكن جريمة الحيّ أصابتها بحمّى الرحيل، ولم تَعُد تفكّر في غير كيفية تنظيمه
"الحرب لم تنتهِ".. أجْفل من هذه الفكرة التي تباغتني. أريد ان أنساها وأتذكّر أشياء أخرى. حركة الجيران تأخذني إلى مكان آخر. اليوم، وبعد أيام على الجريمة، أريد ان أفهم سبب تلك الحركة المتواصلة بينهم. في الطابق الأرضي من عمارتنا عائلتان مسيحيتان، من طائفة السريان الأرثوذكس، معروفتان باسم نسائها. سميرة وظريفة. الأولى، سميرة، من سريان تركيا، ذائعة الصيت في الحيّ. معروفةٌ بإدارتها الحازمة لبيتها وعائلتها. أربعة أولاد، وزوجها جورج دائم الغياب في الشغل. عمل في عنْجر بالبقاع، تقني كهربائي. وبعدما اندلعت الحرب، راسل أقرباءه الذين استقروا في السويد من ثماني سنوات. كانت هجرتهم مسهّلة. الحكومة السويدية كانت قد قرّرت وقتها أن يكون لأبناء هذه الطائفة كوتا لمئتين منهم. أقرباء جورج ردّوا عليه، سهّلوا سفره إلى السويد. قالوا له إنّ عليه أن ينسى مهنته السابقة، وأن يجد لنفسه عملاً مُجزياً في أحد معامل السويد. هكذا، راح جورج إلى السويد قبل سنة، وها هو يراسل سميرة، بأنّ عليها أن تهيّئ نفسها والأولاد. وسميرة، في البداية، لم تكن متحمّسة كثيراً للهجرة، لكن جريمة الحيّ أصابتها بحمّى الرحيل، ولم تَعُد تفكّر في غير كيفية تنظيمه. وجورج لم يتأخر. تدرَّب على العمل في معمل "فولفو" للسيارات، مع ضماناتٍ صحيةٍ ومدرسةٍ للأولاد.
- ماذا نريد أكثر من ذلك يا سميرة؟ هكذا، وقع تاريخ خروج سميرة من بيروت مع يوم اغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط. والعمارة كلها مشغولةٌ بالعجقة التي سبّبها وداع سميرة، وأسف على فراقها، على نظافتها، على كونها مسيحية. يخسرون الجيران الذين أصبغوا على الحيّ حياة أخرى. يُقرون، بمرارة، بأنّ الحرب صارت بين الطوائف، وأن حيّهم سيصبح "مسلماً مئة بالمئة". وبعضهم، بإفراطهم في وداع سميرة، يلطّشون على الجارة الأخرى، ظريفة. سريانية هي أيضاً، ولكن أصلها، هي وزوجها، من العراق. سلك زوجها إيليا طريق السويد، وبمساعدة أقربائه أيضاً، فتوفّق بالعمل، وأخذ يرسل لها الرسالة تلو الأخرى، إن الحياة هنا في السويد رغيدة، وإن ابنهما إفرام سيكون له مستقبل. وظريفة لا تريد الخروج من لبنان، ولا تريد لإيليا أن يعود. لا تحبّه. وفي غيابه تشعر بالحرية والانشراح. لا تستطيع تركه. ممنوع الطلاق عندهم. وهي لا تطيقه. تزوجته تحت إلحاح أهلها وخوفهم عليها من فَلَتانها المبكر.
بعد أن عادت من السويد التي لم تعجبها اخترقت رصاصة طائشة جدار مطبخها، لتقرر في اليوم التالي أن تلتحق بإيليا في السويد، وتنسى لبنان نهائياً
إذن تراوغ ظريفة. وهي سعيدة بذلك. وإيليا يبعث إليها الرسائل، ويجنّ جنونه كلما ردّت عليه بأنها باقية هنا مهما حصل. وهو يلحّ عليها: فكّري بإفرام. تذكّري فقط كمْ يسخرون من اسمه. قلبوه، شوّهوه، وصار "أفرم". وكم من مرة نادوه: تعالى افرم لنا البقدونس والبصل.. إفرام، أقدم قدّسينا، صاحب الأناشيد الروحية!
وفي الأخير، ظريفة، مثل سميرة، تهزّها جريمة العمارة القريبة. وترى سميرة، جارَتها الأقرب، تحزم حقائبها، وغمز الجيران الآخرين ولمزهم. تأخذ وقتها لتقرّر الالتحاق بزوجها إيليا. ولكن، بعكس سميرة التي باعت ما باعته من بيتها والقليل الباقي وزّعته على أولاد حيّ التنَك، القريب من دوار الكولا. وكانت تعرف منهم أم رشدي، "اللفّاية"، التي تأتي إليها كل اثنين للتعزيل الأسبوعي، ولشطف أدراج العمارة الأربعة.
بعكس سميرة، قالت ظريفة لجارتها أم عفيف، صاحبة العمارة، إنها ستعود إلى لبنان إذا لم تعجبها السويد. ونيتها على ما بدا للجميع أن لا تعجبها السويد سلفاً، فسافرت مع إفرام، ومكثَت هناك ثلاثة أشهر، وعادت إلى لبنان، تقول إن "جهنم لبنان أرحم من جنة السويد!". ومعها إفرام، الذي لم يعد يتوقف عن البكاء، يريد العودة إلى هناك. وظريفة صمدت. وبقيت في شقتها هذه، "مكيّفة مع الحرب"، كما تقول. حتى اخترقت رصاصة طائشة جدار مطبخها، مرّت بالقرب من رأسها، خدشت أذنها اليسرى، واستقرّت فوق المَجْلى، وأصابت أذنها بطنين دائم، يشبه الصَّفير. وكمن يستيقظ فجأة، قرّرت في اليوم التالي أن تلتحق بإيليا في السويد، وتنسى لبنان نهائياً.
في الجهة الشرقية من العمارة، على مدخل الزاروب، تعيش مارتا في بيت قديم. بتقسيمه الداخلي ونوافذه الخشبية، وحديقته: سطح القرميد الأحمر يكاد يغطّي المنزل كله بأطرافه. وبئر مياه على الطرف الغربي من الحديقة، تخفيها ألواح خشب سميكة. ولا يعرف بوجودها إلا سكان الحيّ القدماء. يتناقلون روايتها المفجعة. قبل حوالى ثلاث سنوات من اندلاع الحرب، سقطَ بولس، ابن مارتا البكر، في البئر وهو في الرابعة من عمره. ومن وقتها، أغلقوا البئر، وسدّوا فتحتها بتلك الألواح الخشبية، فاهتزت نفسية مارتا، وهاجر زوجها إلى البرازيل بمفرده.
شائعة الحيّ قالت إن الذي جرى في هذا المنزل جريمة بسلاح كاتم الصوت، بحقّ عائلة مسيحية، بجميع أفرادها إلا ابنتهم الشابة
يسخر الجميع من جنون مارتا. ينقلون عنها إصرارها على عدم إرسال ابنها ألفونس إلى المدرسة ثلاثة أعوام متتالية، مع أنه بلغ سنّ المدرسة. قرّرت أن تبقيه إلى جانبها. لا تعارض ذهاب ابنتها أنطوانيت إلى المدرسة، لأنها بنت، ولا تخاف عليها. الجيران يقولون ذلك. أما هي فلا، أبداً، تحب أنطوانيت بقدر ما تحب ألفونس. ولكنها أرسلت جواز سفر ألفونس إلى البرازيل. كما طلب زوجها. وطلب منها أيضاً أن تتأهب للالتحاق به. وهي لا تستطيع أن تدفع القسط، وتتكبّد مصاريف المدرسة الباهظة، وبعد ذلك "تسْحب" ألفونس، وهوَ في غمرة الدروس، ليلتحقوا كلهم بالأب المهاجر..!. والمشكلة أن رسائل زوج مارتا بقيت على هذه النغمة الواحدة طوال كل هذه السنوات. ومارتا تكرّر، عند بداية كل عام دراسي، أنها لن ترسل ألفونس إلى المدرسة، لأنها "تنتظر الباسبور والفيزا إلى البرازيل". وفي النهاية، في هذه السنة بالذات، بعدما شاهدت مارتا رحيل سكان الحيّ المسيحيين، الواحد تلو الآخر، باعت البيت كله، وسافرت إلى البرازيل.. وبقي الحيّ يتساءل إن كانت، قبل ذلك، تلقّت الفيزا. ولم يَعُد أحدٌ يسمع عن مارتا، ولا أخبارها التي كانت محطّ سخرية بين الأولاد.
- خرجت جارتنا مارتا في الوقت المناسب! مع أنني آسف على رحيلها، ومعها ابنتها أنطوانيت، وهي من جيل بناتي. كانت عكس أمها. تُفرط في إلقاء النُكَت، تحفظ أغاني الكشاف الذي كانت عضواً فيه. تردّدها بصوتٍ جهوري، كأنها تلحن لمشْيَة عسكرية، ولا تخفي تعبها من عدم إرسال أخيها إلى المدرسة، فهي، بعد الصفوف الطويلة في مدرستها، مطلوبٌ منها أن تعطيه دروساً في اللغات والحساب. بروح عالية من المسؤولية. ولكن ماذا تفعل إذا كان هو "حمار"؟ لا يريد أن يتعلم؟ وفي رأسه لا شيء غير الرحلة الموعودة إلى البرازيل؟ (...)
(الباقون الذين رحلوا من الحيّ عام 1977 وبعيده بقليل: أم أنطون وأولادها الثلاثة، والعجوز أم إلياس، والأخوات "برونتي"، أو هكذا كان لقبهن بين الشباب من أبناء الحيّ).