قصيدة نائل بلعاوي

08 مايو 2020
+ الخط -
خطفت يد المنون، قبل أيام، الشاعر والكاتب والمترجم الفلسطيني، نائل بلعاوي، عن 54 عاما (إلا شهورا)، في فيينا، حيث كان يقيم منذ غادر إليها قبل 31 عاما (وبضعة شهور) من مدينة الزرقاء الأردنية، والتي تعرّف فيها صاحب هذه الكلمات على الصديق الراحل، وعرف فيه قلقه المبكّر، وقلة رضى العشريني الذي كانه على العالم، وما مثلَهما من سجايا بقيت في نائل، إلى الساعة التي بوغت أصدقاؤه ومعارفه بفقده المفاجئ، فضُرِبْنا بصدمةٍ قاسية، وبشعور بمُصابٍ عظيم، وخسران صوتٍ عالٍ لمثقفٍ شجاعٍ كان يجهر بغضبٍ كثيرٍ من عسف المستبدّين في أرضنا العربية، فكان من عاديّ الأحوال وطبائعها أن ينتسب إلى الحالة السورية، ثورةً ونكبةً، شعبا كريما وثقافة بديعة، فاغتبط به أصحابنا السوريون، المقيمون على نبذ العصابة الحاكمة في دمشق، وليقولوا فيه، عند وفاته، الحقّ الأكيد، أنه السوري الفلسطيني والفلسطيني السوري.
حضر نائل بلعاوي في بعض الصحافة الثقافية (والسياسية أحيانا) العربية، المهاجرة، بمقالاتٍ ونصوص وقصائد ومطالعاتٍ وترجمات (عن الألمانية) ليست كثيرة. لم يعمل في الصحافة، ولا اتخذ الكتابة مهنةً، وإنما آثر الإطلال على العالم بصوت شاعرٍ، مثقفٍ، ذوّاق، صاحب رأيٍ وموقف. وأظن أنه كان، إلى سنواتٍ، يتهيّب من فكرة النشر (أو الغزارة في النشر؟)، ما قد يعود إلى حذره الشديد، واستشعارِه حسّا بمسؤوليةٍ خاصةٍ للكلمة على صاحبها، حين تصل إلى قارئ. يتأكّد دليلا على هذا أنه دفع مجموعةً شعرية إلى دار نشر، قبل أزيد من عشر سنوات، ثم سحبها، وأنه هيأ أخرى للنشر، وكتابا نثريّا في الرحلات (نائل كان يسافر كثيرا)، لكنهما ضاعا. ولمّا أصدر مجموعته الوحيدة تاليا، سمّاها "ما يشبه الشعر" (الدار الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2018)، ما يُنبئ بتحسّبه من أن تكون قصائدها (43 نصا) أقلّ من أن تعدّ شعرا. وصدورا، على الأرجح، من نفورٍ فيه من الجدل إياه بشأن قصيدة النثر، وإنْ قال، مرّةً، إنه يكتب النثر من وحي الشعر، ويكتب الشعر من وحي النثر. وإذ قال إن مجموعة أخرى لديه كانت مهيأة للنشر، عنوانها "قصائد إلى كلارا"، فذلك يعني أنه صار أكثر اطمئنانا على تسمية قصائدِه قصائد. ومأمولٌ ممن كانوا حواليه في عاصمة النمسا أن يعملوا على نشرِها، تحيةً إلى روحه.
قصيدة نائل بلعاوي، عموما، مشغولةٌ بأنا متأملة، تتحسّس جوانيات هذه الأنا، تبصر في الوجود والأشياء والطبيعة. الرائق فيها أنها تناوش الحياة، وتقترب من حالات حب، وفيها قلة ارتياح من العالم. أكثر قصائد المجموعة المنشورة تنبني من حالات الشاعر وهو يتملى في الليل، ويستدعي الأرصفة، ويهمس عن الحب، ويتذكّر، وينظر في الورد، في الحدائق، ويحاور الضوء، ويرى العتمة، ويتوسّل الهمس، ويكتب عن الوحدة، ويقول عن العزلة.. وإلى قصائد تطوف في هذا المزاج (أو الأمزجة على الأصح)، بإيقاعٍ له رنّة الهدوء، والتمهل، والبطء، ثمّة قصائد أقلّ تتوسل سردا مكثفا، يعتني بالتعبير عن لحظةٍ أو مشهد أو محكيةٍ عابرة، وهذه القصائد أكثر اقترابا من النثر، فيما النثر أنفاسٌ وحسب في تلك.
لو أن الأرضَ/ هذه الأرضَ/ أصغرُ قليلا/ لو أنها بزقاقٍ واحدٍ/ ضيقٍ وقصير/ تسكنين أوّله/ وأسكن بيتَه الأخير/ كنتُ جئتُ الآن .. هذا واحد من "مقاطع يتيمة"، كما سمّاها نائل بلعاوي، في قصيدته "ما يشبه الحب" التي ختم بها "ما يشبه الشعر". مقطعٌ يذهب فيه شِعر صديقنا إلى المنزلة التي لا تفيد من الإيحاء والشعور والإحساس فحسب، وإنما أيضا من سعة المخيلة. يكتب نائل أيضا في قصيدته "اعتراف": أستطيع/ بلمسة خاطفة/ وبشيء من الوجد/ أن أقول لك الآن/ كيف مرّ العمر/ شقيا/ متردّدا/ كيف أقضي الوقت/ باصطياد السحاب/ والرقص البطيء حول نارٍ لا أراها/ ... . وكما في غير موضعٍ من نصوصه، يجول نائل هنا في حياته القصيرة، وأظنّه، في تعبيره الكاشف هذا، أضاءَ على ما كان يتراكم فيه من قلق، كما تجلّى في سطرٍ من قصيدةٍ أخرى: أريد بدايةً لا تشبه الأولى/ ونهايةً لا تشبه القادمة.
يكتب نائل في قصيدة سمّاها "ما يشبه الموت"، ويهديها إلى صديقٍ له لم يتمّ الثلاثين عاما: لم يكتمل موتُك بعد/ وقد لا يكتمل أبدا/ هناك سروةٌ يتيمةٌ على الطريق بين مدينتين/ حفرت اسمك مرةً في جذعها العتيق/ فصار ظلّها/ والجذع لا يموت/ والظلّ يبقى .. وأحدس، هنا، أن ظلا شفيفا باقيا بين ظهرانينا تركه نائل بلعاوي، أخضر، رهيفا..
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.