قليل عن ديمومة معنى النكبة
ما زالت أوساط إسرائيلية معينة واقعةً تحت تأثير ما تسميه "أيار الأسود 2021" الذي اندلعت فيه هبّة فلسطينية شعبية شاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 1948. وإذا ما شئنا التحديد، بقيت هذه الأوساط أكثر شيء تحت تأثير انخراط الفلسطينيين في الداخل في تلك الهبّة، بعدما أوحى لُهاثُ فصيلٍ منهم، الجناح الجنوبي للحركة الإسلامية متمثلة بكتلتها البرلمانية، وراء الانضمام إلى صفوف الائتلاف الحاكم بأنّ ثمة جاهزية مغروسة في الأعماق لتأجيج اتجاهات أسرلتهم.
ما يثبت هذا الأمر تدافع مركز القدس للشؤون العامة، وهو معهد أبحاث إسرائيلي ذو نزعة يمينية، متخصص في الدبلوماسية العامة والسياسة الخارجية، تأسّس عام 1976، إلى نشر دراسة جديدة هذه الأيام تحمل عنوان "عرب إسرائيل خلال أعمال الشغب التي وقعت في مايو 2021 - تحليل في العمق"، تطرّقت إلى دور فلسطينيي الـ 48 في الهبّة، وما ينطوي عليه هذا الدور من دلالاتٍ تتعلّق بموقفهم حيال قضية فلسطين من جهة، ورؤيتهم إلى صيرورة إسرائيل ومستقبلها من جهة أخرى. وهي تعدّ "تلك الأعمال الأوسع نطاقاً منذ قيام الدولة"، وتجزم بأنّها اندلعت أساساً لدوافع قومية، وليست بسبب عوامل اجتماعية - اقتصادية صرفة، لكنّها، في الوقت عينه، تؤكّد أنّ هذه الدوافع الأخيرة ذات تأثير جليّ.
بطبيعة الحال، تطرح كلّ هبّة فلسطينية شعبية، أو أيّ مواجهةٍ شاملة مع دولة الاحتلال، على مستوى الوعي، قضايا من شأنها أن تنحو منحىً أخلاقياً من الدرجة الأولى، وهذه القضايا قد يُقدّر لها أن تصوغ دروساً ثقافية وتاريخية تتغلغل شيئاً فشيئاً في الوعي العام. وإذا ما قفزنا عن عنصر المفاجأة الذي استخدم كثيراً من الطرف الإسرائيلي، لتوصيف سلوك فلسطينيي الـ 48 في تلك الهبّة في ما يمكن أن يدلّ على رغائب هذا الطرف أكثر مما على جوهر السلوك الخاضع للتحليل، فإنّ أبرز الدروس التي تحاول الدراسة المذكورة استخلاصها وتعميمها، أنّ الهبّة كانت بمنزلة إثبات آخر على أنّ كينونة الفلسطينيين في إسرائيل هي من تداعيات ما حدث في عام 1948، وهي مرشّحة لأن تظلّ على هذا النحو. لذا، إنّ استعادة النكبة، والتمسّك بحق العودة للاجئين الفلسطينيين باعتبار تحقيقه من أشكال تجاوز آثار التهجير والتطهير العرقي، ما فتئا يحدّدان سلوكهم السياسي على المستوى القومي وعلى صعيد الوطنية الفلسطينية، مهما بلغ شأو النأي عن هاتين المسألتين، مثلما هو كامن في سلوك بعضهم على الصعيد المدنيّ، في إشارةٍ واضحةٍ إلى المُلتحقين بذيل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الحالي.
لا تُجادل الدراسة في هذه المسألة من أجل التفسير، بل من أجل تبرير تحريضٍ تشنّه في استخلاصاتها اللاحقة على من تصفهم بأنّهم المسؤولون عن هذه الحال، ومن ضمنهم جهات فلسطينية في الداخل بالأساس ناشطة في حقل الثقافة، وفي مقدمها جمعية الثقافة العربية ومشروعها الذي أطلقته قبل عدة أعوام تحت مُسمّى "باص حيفا بيروت" بغية أن تعيد إلى الأذهان ما سبّبته النكبة من انقطاع التواصل الطبيعي بين فلسطين والعالم العربي.
ما تقوله هذه الدراسة بإيجاز، وإن بشكلٍ مُوارب، أنّ إسرائيل لا تمتلك منعةً كافية لتدرأ عن نفسها تداعيات معنى النكبة، وتحديداً ذلك المستمدّ مما اقترفته يداها إبّانها. ولا تفعل ذلك بهدف الحثّ على إعادة التأمل في ما حدث، وربما الإقرار به، كإشارة إلى رغبة في تحمّل ولو مسؤولية جزئية عن إيجاد حلول له، وإنّما للحضّ على مزيد من اليد الحديدية.
يمكن أن نضيف أنّ هبّة فلسطينيي الداخل جاءت لتؤكّد أنّهم جزءٌ من الوطنية الفلسطينية، وأنّ جهود الدمج والأسرلة الإسرائيلية لم تفلح في إقصاء هويتهم، كذلك فإنّه بقدر ما أظهروا في هذه الهبّة من التزام عميق وقوي بقضاياهم الوطنية، وبأنّ قضية فلسطين واحدة، فإنّ إسرائيل ستضاعف من جهود مواجهتهم بالترغيب والترهيب، وقد تعيد النظر في أساليبها لإخضاعهم أو دمجهم. ولذا لن تكون هبّتهم هذه الأخيرة، مثلما لم تكن الأولى.