قناة إسطنبول واتفاقية مونترو.. سجال تركي ساخن بين الحكومة والمعارضة
تعيش تركيا، في أيامنا هذه، على وقع ارتدادات البيان الذي أصدره 104 ضباط من كبار ضباط البحرية التركية المتقاعدين، منتصف ليلة الرابع من إبريل/ نيسان الجاري، واعترضوا فيه على سياسات الحكومة التركية ومساعيها حيال عدد من القضايا، خصوصاً المتعلقة بتنفيذ مشروع قناة إسطنبول المائية للربط بين البحر الأسود وبحر إيجه، والتي اعتبروها محاولة للخروج من اتفاقية "مونترو" الدولية، الخاصة بحركة السفن عبر المضائق التركية، والموقّعة عام 1936.
اعتراضات البيان
وجاء بيان الضباط المتقاعدين الأتراك على وقع النقاشات والسجالات الساخنة ما بين الحكومة والمعارضة، التي أحدثها مشروع قناة إسطنبول المائية، إذ يقود رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، ومعه حزب الشعب الجمهوري، حملة معارضة لمشروع القناة، لاعتباراتٍ بيئية واقتصادية وسياسية، لكنّ الموقّعين على البيان اعترضوا على مشروع القناة باعتبارهم أنّه يمسّ باتفاقية "مونترو" التي "تحمي حقوق الشعب التركي بأفضل شكل، من خلال السيطرة التركية على المضائق بشكل كامل"، بوصفها "اتفاقية تمنع دخول تركيا في أيّ حرب لا تريدها إلى جانب أحد الأطراف المتحاربين، إذ أتاحت لها، في أثناء الحرب العالمية الثانية، أن تَحمي حيادها". لذلك طالبوا، في بيانهم، بضرورة "تجنُّب أيّ كلام أو نشاط يمكن أن يكون سبباً ليَضع هذه الاتفاقية على الطاولة، أو أن تكون موضع نقاش، وهي الاتفاقية التي تحتلّ، لهذا السبب أو لغيره، موقعاً مهمّاً في مصير تركيا وبقائها". وذهب موقّعو البيان إلى اعتبار اتفاقية مونترو "ليست مجرّد اتفاقية تحكم مرور السفن عبر المضائق التركية، بل انتصار دبلوماسي كبير، أعاد إلى تركيا سيادتها على مضائقها البحرية الاستراتيجية"، وبفضلها "أصبح البحر الأسود بحراً للسلام".
تضمّن بيان الضباط الأتراك المتقاعدين نقاطاً عدة، إلا أنّ تركيزه كان منصباً على جملة من الاعتراضات، طاولت، على وجه الخصوص، ما اعتبروه محاولة الخروج من اتفاقية "مونترو"
ولم يتوقف البيان عند التحذير من الانسحاب من اتفاقية "مونترو"، بل امتد إلى قضايا داخلية عدة متعلقة بإدارة الدولة وسياسات الحكومة وقيم الجمهورية والعلمانية، إذ دان الموقعون على البيان "ابتعاد القوات البحرية التركية عن هذه القيم، وعن النهج المعاصر الذي رسمه مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك"، وعبّروا عن حزنهم لانتشار "بعض الأخبار والصور" الخاصة بالقوات البحرية في وسائل التواصل الاجتماعي، في إحالةٍ إلى انتشار صورة على مواقع التواصل الاجتماعي لضابط في البحرية التركية في مكان عبادة، مرتدياً عمامة وعباءة فوق لباسه العسكري، مع أنّ وزارة الدفاع التركية أعلنت فتح تحقيق في هذا الموضوع. ودعا البيان إلى ضرورة "أن يعمل الجيش التركي بجدّ من أجل المحافظة على المواد الأساسية للدستور، التي لا يمكن تغييرها ولا يمكن اقتراح تغييرها"، في إشارة إلى معارضتهم الدعوى التي أطلقها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من أجل تغيير الدستور التركي المعمول به منذ 1982.
وعلى الرغم من تضمّن بيان الضباط الأتراك المتقاعدين نقاطاً عدة، إلا أنّ تركيزه كان منصباً على جملة من الاعتراضات، طاولت، على وجه الخصوص، ما اعتبروه محاولة الخروج من اتفاقية "مونترو"؛ إذ استند موقعو البيان في ذلك إلى الجدال الذي أثارته واقعة انسحاب تركيا من اتفاقية "إسطنبول" لحماية المرأة من العنف بمرسوم رئاسي، وإمكانية أن تنسحب من اتفاقيات ومعاهدات دولية أخرى، خصوصاً بعد التصريحات التي أطلقها رئيس البرلمان التركي، مصطفى شنطوب، وتحدّث فيها عن إمكانية خروج تركيا من اتفاقيات دولية أخرى، بما فيها اتفاقية "مونترو" مثالاً، بموجب الصلاحيات التي يمنحها الدستور التركي للرئيس للخروج من الاتفاقيات الدولية.
ردود الفعل
ويدخل بيان الضباط الأتراك المتقاعدين في سياق الاستقطاب السياسي الذي تشهده تركيا، وما يستتبعه من سجال وتنافس ما بين حزب العدالة والتنمية الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية من جهة، وأحزاب وقوى المعارضة من جهة أخرى. لذلك، أثار البيان نقاشاتٍ وسجالاتٍ واسعة على مختلف المستويات، الرسمية والسياسية والشعبية، وصدرت ردود فعل عدة من مسؤولين في الحكومة وأحزاب المعارضة، إذ فتحت النيابة العامة في العاصمة أنقرة تحقيقاً "مع الموقعين على البيان، ومن يقف وراء إعداده"، وجرى توقيف عشرة ضباط من الموقعين على البيان على ذمة التحقيق، واستدعاء أربعة آخرين منهم للإدلاء بإفاداتهم أمام القضاء من دون توقيفهم، مراعاة لكبر سنهم ووضعهم الصحي.
رفض أردوغان "قبول بيان الجنرالات المتقاعدين ضمن حرية التعبير، لأنّ حرية التعبير لا تتضمن جملاً فيها تهديد للسلطة المنتخبة"
وتمحورت ردود فعل الداعمين للبيان حول إدخاله ضمن حرية التعبير، واعتبار أنّ ردّ فعل المعترضين عليه مبالغ فيه، لأنّ الضباط الموقعين على البيان لم يرتكبوا جريمة، بل عبّروا عن آرائهم مثل بقية المواطنين. في حين تمحور ردّ فعل المسؤولين في حزب العدالة والتنمية (الحاكم) وحليفه حزب الحركة القومية، حول ربط البيان بفكرة الانقلاب، والتركيز على أنّ التعبير عن الرأي شيء، وبيان يدعو إلى انقلاب شيء آخر، إذ رفض الرئيس أردوغان "قبول بيان الجنرالات المتقاعدين ضمن حرية التعبير، لأنّ حرية التعبير لا تتضمن جملاً فيها تهديد للسلطة المنتخبة"، وأكد عدم وجود أيّ نيةٍ لديه في الوقت الراهن للخروج من اتفاقية "مونترو"، معتبراً أنّ "معارضي مشروع قناة إسطنبول هم أعداء لأتاتورك والجمهورية التركية"، وأنّ "إصدار بيانٍ في منتصف الليل هو سلوك يعبر عن نوايا سيئة"؛ كونه يعيد إلى الأذهان الانقلابات العسكرية في تركيا، وتدخل الجيش في الحياة السياسية وفي شؤون الدولة. أما رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، المتحالف مع حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، فطالب بتجريد الضباط الموقعين على البيان من رتبهم العسكرية، وقطع رواتبهم، بالإضافة إلى حرمانهم من حقوقهم التقاعدية. كما أصدرت وزارة الدفاع التركية بياناً، اعتبرت فيه بيان الضباط المتقاعدين "ليست له أي فائدة سوى الإضرار بالديمقراطية ودوافع الجيش التركي ومعنوياته"، وأضافت أن "نظام العدالة التركي سيتخذ الخطوات اللازمة".
وفي طرف المعارضة، وصفت رئيسة حزب الجيّد، ميرال أكشنر، البيان بـ "الغبي"، معتبرة أنّ "مثل هذه البيانات، في وقت متأخر من الليل، تذكّرني بالمذكرات العسكرية التي تسببت في انقطاع الديمقراطية". ورأى زعيم حزب الديمقراطية والتقدّم، علي باباجان، أنّ "صفحات العار في تاريخنا مليئة بالتدخلات العسكرية غير المبرّرة في السياسة، يجب ألاّ يذكّرونا بتلك الذكريات المؤلمة".
عكست ردود الفعل الرسمية حيال البيان رفضاً صارماً لتدخل العسكر في الحياة السياسية والمدنية
أما حزب الشعب الجمهوري المعارض وقوى معارضة أخرى، فرأت أنّ البيان هو تعبير عن وجهة نظر للضباط المتقاعدين حول القضايا التي يجري تداولها في وسائل الإعلام، ويتماشى مع المادة 25 من الدستور التركي، التي تكفل حرية الرأي للجميع، بمن فيهم الضباط المتقاعدون. وبالتالي، ليس فيه أي دعوة إلى القيام بانقلاب عسكري. وعلى هذا الأساس، وصف رئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كلجدار أوغلو، رد فعل الحكومة، بأنّه "أجندة زائفة لا جدوى منها". فيما اعتبر الناطق باسم الحزب، فائق أوزتراك، أنّ "محاولة أردوغان الظهور بمظهر ضحيَّة محاولة انقلاب جديدة لن تمرّ على أحد، وهي مسرحية قد سبق عرضها. وإن كانوا يريدون عدم حدوث انقلابات، فعليهم تطهير الجيش من الضبّاط الذين يرتدون الجبّة الدينية".
قناة إسطنبول واتفاقية مونترو
وعكست ردود الفعل الرسمية حيال البيان رفضاً صارماً لتدخل العسكر في الحياة السياسية والمدنية، إذ على الرغم من أنّه لا يرقى إلى مصاف التهديد بانقلاب عسكري، فإنّه يحمل تحذيراً من عسكريين سابقين، من مغبّة الانسحاب من اتفاقية "مونترو" وتنفيذ مشروع قناة إسطنبول المائية.
وقد فتح مشروع القناة الجدال بشأن جدواها، والحاجة إليها، في ظل وجود مضيق البوسفور، وعما إذا كان سيؤثر على اتفاقية "مونترو" الموقّعة في 20 يوليو/تموز 1936 في مدينة مونترو السويسرية، التي وقّعت عليها كلّ من تركيا والاتحاد السوفييتي السابق وبريطانيا وفرنسا واليونان وبلغاريا ورومانيا ويوغسلافيا السابقة واليابان وأستراليا. وهي تسمح للسفن التابعة للدول المطلة على البحر الأسود بحرية المرور، والتواجد في حوض البحر الأسود، أما السفن التابعة لدول خارج حوض البحر الأسود، فيُسمح لها بالتواجد ثلاثة أسابيع.
عدد السفن التي عبرت مضيق البوسفور عام 2019 بلغ 41 ألفاً و112 سفينة، ثم انخفض خلال 2020 إلى 38 ألف سفينة، بسبب تأثيرات الجائحة
وأقرّت الاتفاقية سيادة تركيا الكاملة على المضائق المائية الاستراتيجية، وحقها في تنظيم حركة الملاحة في مضائق البوسفور والدردنيل وبحر مرمرة، بالإضافة إلى أنّها تكفل حرية مرور السفن التجارية في أوقات السلم والحرب، وسمحت للسفن الحربية التابعة لدول حوض البحر الأسود بالمرور من دون أيّ تقييد أو تحديد، لكنّها قيدت حركة السفن الحربية للدول التي لا تطلّ على البحر الأسود وفق شروط معينة، إذ سمحت لها بالتواجد في البحر الأسود ثلاثة أسابيع فقط، شريطة ألاّ يتجاوز عددها تسع سفن، وأن تكون خفيفة الوزن، لا تتجاوز حمولتها الإجمالية 15 ألف طن.
ووفق إحصاءات وزارة المواصلات والبنى التحتية التركية، فإنّ عدد السفن التي عبرت مضيق البوسفور عام 2019 بلغ 41 ألفاً و112 سفينة، لكنّ عددها انخفض خلال 2020 إلى 38 ألف سفينة، بسبب تأثيرات الجائحة التي سببها فيروس كورونا الجديد. أما المتوسّط السنوي لعدد السفن التي تعبر مضيق البوسفور فيتراوح بين 40 و42 ألف سفينة، مع العلم أنّ طاقة المضيق الاستيعابية تبلغ 25 ألف سفينة سنوياً فقط. لذلك، فإنّ أحد الأهداف التي تسوقها الحكومة التركية من أجل فتح قناة إسطنبول المائية هو تخفيض الضغط على مضيق البوسفور، لكن الهدف الأكبر رغبتها في تحقيق عوائد مالية أكبر من عبور السفن، وتحقيق أرباح كبيرة تعوّضها عن الأموال التي حرمتها منها اتفاقية مونترو من جبايتها، إلى جانب اتخاذ تدابير أكثر صرامة بصدد السفن التي تشكل خطرا على البيئة، خصوصاً سفن نقل النفط ومشتقاته.
ويبدو أنّ الاستعدادات لشق قناة إسطنبول المائية قد بلغت مراحلها الأخيرة، بحسب إعلان الرئيس التركي، أخيراً، والذي اعتبرها من أكبر مشاريع البنية التحتية، وأكثرها استراتيجية في تركيا، وتقع ضمن المشاريع العملاقة التي تهدف إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي لها، إذ تطمح الحكومة إلى كسب ثمانية مليارات دولار سنوياً مقابل الرسوم التي تدفعها السفن للمرور عبرها، في ظل عدم خضوعها لاتفاقية "مونترو".
معارضو المشروع يرون أنّ أعمال الحفر ستستغرق مدة زمنية طويلة، وتؤدي إلى فقدان موارد المياه العذبة، فضلاً عن إزالة مستنقعات المياه
وتقع القناة في القسم الأوروبي من مدينة إسطنبول، وتقسمه إلى قسمين، فيصبح الجزء الشرقي من القسم الأوروبي جزيرة. وتربط البحر الأسود في الشمال مع بحر مرمرة في الجنوب، بطول 45 كيلومتراً، وعمق 21 متراً، وبعرض حوالي 400 متر، وقد يصل إلى أكثر من ذلك في بعض النقاط، وتقدّر التكلفة المبدئية للمشروع بحوالي 15 مليار دولار.
وترفض أحزاب المعارضة التركية مشروع قناة إسطنبول، ووصفها رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، بأنّها "مشروع كارثي سيتسبب في مجزرة بيئية"، وأنّها ستُحدث تغيرات في التوازن البيئي، وتهدد النظام البيئي والمناطق الأثرية حولها، على الرغم من أنّ الحكومة التركية تجادل بأنّ القناة ستقلل من الانبعاثات والمخلفات التي قد تضر بالمناطق الأثرية والتراثية المحيطة بها. كما أنّ معارضي المشروع يرون أنّ أعمال الحفر ستستغرق مدة زمنية طويلة، وتؤدي إلى فقدان موارد المياه العذبة، فضلاً عن إزالة مستنقعات المياه، وأنّها "المشروع الربحي الذي لا حاجة له، كونها تزيد مكاسب الحكومة، ولا تخدم المواطن التركي" بحسب وصف النائب المعارض، أردوغان توبراك.
واللافت، على المستوى السياسي، أنّ هناك من يربط بين عودة التوتر والتخوف من نشوب حرب جديدة بين روسيا وأوكرانيا والحديث عن احتمال إلغاء تركيا اتفاقية مونترو، كونه سيشكل تهديداً مباشراً لروسيا، من جهة التضييق عليها، وعلى أسطولها البحري في البحر الأسود، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي، تسعى إلى تعزيز مواقعها فيه، بغية تعزيز جهودها لتطويق روسيا. غير أنّ أوساطاً في حزب العدالة والتنمية تجادل بأنّ إلغاء الاتفاقية يتعارض كلياً مع سعي الرئيس أردوغان إلى شق قناة إسطنبول، إذ لو كان ينوي ذلك لما توجه نحو مشروع القناة الذي سيكلف الخزينة التركية على الأقل 15 مليار دولار. لكنّ هذه الأوساط لا تخفي أنّ البيان جاء في وقتٍ يشوب الفتور العلاقة بين القيادة التركية وإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. مع ذلك، في ظلّ التوترات في البحر الأسود، تكتسي مسألة المضائق ومستقبل اتفاقية مونترو أهمية كبيرة، بالإضافة إلى مشروع قناة إسطنبول، الأمر الذي يضع تركيا في موقف حيوي وبالغ الأهمية.