قول موجز في محنة ريان
كانت ستصير معجزةً إلهيةً، لو أن ربّ البرية أسبغَ من نعمائه حياةً جديدةً للطفل المغربي، ريان أورام، ذي الخمس سنوات، بعد أن أمكن انتشالُه من حفرة البئر العميقة الضيقة (32 مترا) في قريته قرب مدينة شفشاون (شمال). أما وأن وفاته جاءت نهايةً حزينةً، وفاجعة، بعد جهودٍ جبّارة لمئات الفنيين والمهندسين والخبراء من أجل إنقاذه، دامت نحو خمسة أيام، فإنها لم تكن مفاجئةً تماما، بالنظر إلى منطق العلم وطبائع الحياة، وقبلهما وبعدهما، ثمّة قضاءُ الله الذي لا رادّ له. وهنا أولى العِظات التي في الوسع أن تُقال في الواقعة الملحمية، البالغة الإنسانية. موجزها إن النفس البشرية الواحدة قيمةٌ عليا، على الإنسان ألا يبخسها أبدا، فلا يعتصم عن بذل أي جهدٍ في صوْنها، فالذين أخذوا القرار في السلطات المغربية بتوفير كل الإمكانات، وإنفاذ كل المحاولات، والتغلّب على مختلف الصعوبات المعيقة (الصخور وانهيار التربة و.. إلخ)، من أجل التسريع بتخليص ريان من محنته في قاع حفرة البئر (العشوائية)، يستحقّون التقدير على ما صنعوا. وهم يذكّروننا، نحن العرب، بأن ثمّة بين ظهرانينا، من هم في مواقع المسؤولية، ويستشعرون في جوانحهم تلك القيمة العظيمة للنفس البشرية، الأجلّ عند الله من الكعبة.
كما يؤكّد التدافع الذي رأينا عليه أهل الكفاءة والمعرفة في معالجة الحالة المعقّدة لحفرة البئر وحواليْها أن في الأمة مخلصين لعملهم، عارفين بحقائق العلم والإمكانات التي ييسّرها للإنسان في مجابهة كل تحدّ تواجِهه به الطبيعة. وقد دلّ نجاحُهم، بدأبهم وحرصهم الحذر والباهظ على انتشال ريان من دون طارئٍ غير محسوب، على أنهم على قدرٍ عالٍ من الدراية بما يصنعون. وهنا درسٌ بليغ، موجزُه الإيمان الواجب بقدرة الكفاءات المهنية العربية المتعلّمة المدرّبة، وكذا التأكيد على أهمية التأهيل الدائم للشباب العربي، في غير اختصاصٍ وحقل وعلم، ليكون على جاهزيةٍ كاملةٍ عند أي ظرفٍ غير محمود، وعند أي نائبة. وفي البال، مثلا، أن قدراتٍ مصريةً خالصةً أمكن لها أن تعثر على الصندوق الأسود لطائرة مصرية سقطت في البحر المتوسط في 2016، ساعاتٍ بعد الحادثة المشؤومة. وهنا يحسُن التقدير الكبير لجميع الطواقم المغربية التي تنوّعت مهامها، الحسّاسة، خمسة أيام، والتي أمكن لها إخراج ريان من قاع البئر الشديدة الخطورة.
أما في مسألة الإعلام، فإذا كان أنفارٌ استطابوا التدليس والاستعراضيات التافهة في غضون متابعة العالم كله جهود انتشال ريان، في ملاعب السوشيال ميديا والصحافات الصفراء، فإن الأدعى أن يُلتفت إلى غير هؤلاء، إلى أهل المهنية العالية في أداء فضائياتٍ وصحافاتٍ ومواقع عربية عديدة، ساهمت في تنوير الجمهور الذي لا حدود لاتّساعه بتفاصيل عملية الإنقاذ. وإذا كان زملاءُ قد رأوا أن بعض هذا الإعلام انسرق إلى ترويج رومانسياتٍ غير دقيقة، عن سلامة الطفل في قاع البئر، وبقائه حيا، بل وعن استجابته لأطعمةٍ ومياهٍ رميت إليه، ما أشاع آمالا عريضةً بنجاته، وبأن فرص إنقاذه حيا كبيرة، إذا كانوا قد رأوا في هذا تضليلا للرأي العام، فقولهم ليس دقيقا، فالذي كان يرِد في هذا الشأن، على محدوديته، كان مسنودا إلى أطباء ومختصين، وقد قال بعضهم إن في وسع طفلٍ أن يبقى من دون أن يشرب ماءً ستة أيام. وزيادة على هذا، إن وجود سيارتي إسعاف وإنعاش على مبعدة أمتارٍ من أشغال الحفر، وكذا أخبار عن طائرة كانت مهيأةً لنقل ريان إلى مستشفى متقدّم الخدمات، ذلك كله يسوّغ منقولات الإعلام عن أولئك المختصين عن إنقاذ ريان حيا إمكانا واردا. عدا عن أنه إذا كان الإعلام قد ساعد في بثّ آمال بنجاة الطفل فإنه يكون إيجابيا في هذا، فمردود بثّ احتمالاتٍ، غير مؤكّدة وغير محسومة، عن وفاته، أو عن وضع بالغ السوء له لم يشخّصه أحد، سيكون بالغ السلبية في ضرب روح التضامن الإنساني الاستثنائية مع الطفل وأسرته، وفي إشاعة منطقٍ بائس، ومرفوضٍ أخلاقيا ومهنيا، يتساءل عن جدوى كل تلك الجهود العظيمة من أجل انتشال "جثة" طفل متوفى.
وليس ختاما، إنه نداء الضمير العربي والإنساني العام، يدعو إلى إسعاف الإنسان في كل مكان بما يلزمه، في القرية كما في المدينة، في الريف كما في الحضر، في البادية كما في الشواطئ، من الحماية والصحة والعيش الكريم. والأطفال المغاربة في قرية ريان أورام قرب شفشاون (الجميلة كما رآها صاحب هذه السطور) ينقصُهم كثير. وأطفال عرب بلا عدد في غير بلد، محتلٍّ أو منكوبٍ أو منهوبٍ، تعوزهم الرعاية الأصح، ولا يتوفر لهم العيش الأكرم.