قيس سعيّد… مأسسة الديكتاتورية
يسير الرئيس التونسي، قيس سعيّد، بخطى حثيثة نحو تأسيس ديكتاتورية جديدة في تونس، تفوق تلك التي كانت في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. كل الإجراءات التي يقوم بها، وجديدها أخيرا حملة الاعتقالات الكبيرة التي طاولت قيادات حركة النهضة، تؤشّر إلى أنه يستعدّ لتسريع إحكام قبضته على الوضع في البلاد قبل الانتخابات الرئاسية المرتقبة في العام المقبل، والتي على أساسها سيتحدّد مصير الوضع السياسي في تونس على المدى البعيد. قد تكون حملة الاعتقالات ضد قيادات "النهضة" خطوة أولى من سلسلة خطوات تستهدف الحراك السياسي في البلاد، لإفراغ الساحة كلياً أمام الولاية الثانية في الرئاسة التونسية.
اللافت أن كل الإجراءات التي يقوم بها سعيّد في الآونة الأخيرة لا تحظى بالكثير من ردّات الفعل الدولية، في ما يؤشّر إلى رضى دولي، فرنسي بالأساس، على حكم سعيّد، لغاية غير معروفة. فحتى الفترة التي أعقبت انقلابه على السلطات الدستورية كلها، من حكومة وبرلمان، لم تصل إلى درجة التنديد الدولي إلى حد فرض عقوباتٍ على تونس، رغم أن هذا كان من المفترض أن يحدُث. ورغم التلويح بالعقوبات، والمطالبات الخجولة بإعادة الحياة السياسية إلى سابق عهدها، لم يتم استخدام أي وسيلة ضغط على الرئيس التونسي لإعادة الصلاحيات للحكومة وإعادة فتح البرلمان، إلى أن تم نسيان هذه المطالبات كلياً، وبات سعيّد طليق اليدين في ما يفعله في تونس.
إطلاق يد سعيّد في الداخل التونسي ليس نتيجة قبول أو غضّ نظر دولي عن ممارسته، فالرئيس التونسي ما كان ليتسلط ويتفرّد في الحكم من دون سند داخلي. هذا السند من المؤكّد أنه ليس شعبياً، رغم أنه وصل في البداية بدعم شعبي كبير، إلا أن هذا الدعم ما لبث أن اندثر حين بدأ الرئيس يظهر على حقيقته، وهو ما تجلّى في الانتخابات البرلمانية التي لم تتخط نسبة التصويت فيها 11%، وهي ربما من أدنى نسب التصويت في العالم. من الواضح أن سعيّد يحظى بدعم كامل من المنظومة الأمنية في البلاد، والجيش على وجه الخصوص، والذي ساهم في تطبيق قرارات سعيّد الهمايونية، إذ كانت قوات الجيش العامل الأساس في تطبيق إغلاق البرلمان ومنع النواب بالقوّة من الوصول إليه. ومن شأن هذا الدعم العسكري للرئيس التونسي أن يساهم في نيله الولاية الثانية التي يطمح إليها بعد إفراغ الساحة السياسية من المرشّحين.
ورغم كل الممارسات التي يقوم بها سعيّد في تونس حالياً، إلا أنه لم ينجح بعد في إرساء الديكتاتورية التي يريدها في ظل وجود رفض كبير لسياساته، وهو ما يظهر بشكل دائم في الاحتجاجات شبه اليومية في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية. إلا أن هذه الاحتجاجات لن تكون كافية في المستقبل لمنع سعيّد من المضي في مسعاه، خصوصاً بعد وصوله إلى الولاية الثانية، والتي ستكون ممارساته خلالها أكثر تسلطاً، فالرجل سيكون مقتنعاً حينها بأنه نال "شرعيةً لاستمرار نهجه"، وهو اليوم مقتنع أساساً بأنه الأصلح لتونس، رغم ما وصلت إليه الأوضاع في البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
لكن المشكلة ليست في سعيّد فقط، بل في معارضيه أيضاً، والذين فشلوا في توحيد صفوفهم في مواجهة تسلّط الرئيس، وهو ما سمح له بالاستفراد فيهم واحداً تلو الآخر عبر الاعتقالات الكثيرة التي ينفّذها، وهو أيضاً ما يمنع تونسيين كثيرين من الالتفاف حول القيادات السياسية البديلة، والتي عانوا من صراعاتها في فترة سابقة، وهو أساساً ما ساهم في انتخاب سعيّد كشخص من خارج الطبقة السياسية التقليدية.
قد لا يكون فات الأوان بالنسبة للتونسيين لمنع ولادة ديكتاتورية جديدة، لكن الوقت ليس في صالحهم، فكل يوم يمرّ يقرّب سعيّد من مبتغاه.