قيس سعيّد وكيف تصبح دكتاتوراً
"كيف تصبح دكتاتوراً" عنوان كتاب أخذ شهرةً، بقلم فرانك ديكتور، ومن ثم تحوّل إلى سلسلة على "نتفلكس" من ست حلقات. وبقدر ما يبسط في الكتاب سهولة أن تصبح دكتاتوراً إلى درجةٍ يخال المرء فيها أن في وسع أي شخص أن يصبح دكتاتوراً، طبعا يمدّنا علم النفس هنا بكثير من التحليل والمعرفة، على اعتبار أن في هذا الصنف من البشر (الدكتاتوريون) شيء من التميز والخبث وتبلد الإحساس العام والشعور بالنرجسية والأنانية، وهي صفات عامة اجتمعت في كل من موسوليني، هتلر، ستالين، ماو تسي تونغ، كيم إيل سونغ، تشاوشيسكو، منغيستو من إثيوبيا ودوفالييه من هايتي.
يذهب الكتاب بعيدا كي يقول إنه لا يمكن لأي دكتاتور أن يحكم من خلال الخوف والعنف وحده. إذ يمكن الاستيلاء على القوة العارية، والاحتفاظ بها مؤقتًا، لكنها لا تكفي أبدًا على المدى الطويل. الطاغية الذي يستطيع إجبار شعبه على الهتاف له سيستمر فترةً أطول. التناقض في الدكتاتور الحديث أنه يجب أن ينشئ وهم الدعم الشعبي. وهذا الوهم هو ما اعتقد الرئيس التونسي، قيس سعيّد، أنه استحقّه في تونس، وهو ما فتئ يردّد أنه يحظى بالدعم الشعبي منذ 25 يوليو/ تموز الماضي، يوم الانقلاب على الدستور والبرلمان، لكن سعيّد، كما عبد الفتاح السيسي من قبله، الذي اخترع الدعم الشعبي في 30 يونيو/ حزيران 2013، لا يجرؤ على اختبار هذا الدعم الشعبي عبر صندوق الاقتراع، فالدكتاتور، بقدر ما يظهر عظيما قويا صادما شجاعا، يسكنه الخوف من داخله من ضياع السلطة من بين يديه، ويعيش القلق داخله، إلى درجة أنني عندما زرت أوغندا، وقصر الدكتاتور السابق عيدي أمين فيها، وهو الذي اشتهر بعنفه ودمويته ضد رفاقه السابقين، وكل من عارضه، في بيته هذا هناك أجهزة تنصّت وحساسية خاصة لأقدام البشر، عندما تقترب من غرفة نومه التي ترتبط بمخبأ سرّي يأخذه إلى المطار مباشرة.
لغة الرئيس التونسي في غاية الخطورة، وتوضح تماما أنه في طريقه إلى ركوب الدرج نفسه الذي اعتلاه من قبله الدكتاتوريون عبر العالم
أما درج القصر فأسفل كل درجة تعطي صوتا لغرفة النوم بقدر علوّ الدرجة، حتى إذا وصل المرء إلى أعلى الدرجات، أصدرت صوتا صريحا أن الانقلاب اقترب من القصر، وأصبح على بعد خطواتٍ من المخبأ السرّي في غرفة النوم. وقد ذُهلتُ كيف لدكتاتور في دولة فقيرة للغاية كأوغندا يعتمد على تكنولوجيا متطوّر للغاية فقط لحماية نفسه، وهو الذي كان يتفاخر يوميا بالدعم الشعبي الذي يحصل عليه، ولعب دورا رئيسيا في تحريض السود ضد الهنود، وفي تمزيق المجتمع ضد بعضه بعضا. ويبدو أن شيئا من هذا يفعله قيس سعيّد في تونس، في ترديده شبه اليومي مفردات الخونة والعملاء عن معارضيه السياسيين، وهذه لغة في غاية الخطورة في الحقل السياسي الذي يعتمد على الإقصاء، وتوضح تماما أن الرئيس التونسي في طريقه إلى ركوب الدرج نفسه الذي اعتلاه من قبله الدكتاتوريون عبر العالم.
يعود فرانك ديكتور، في كتابه "كيف تصبح دكتاتورا" إلى ثمانٍ من أكثر الصفات الشخصية فعاليةً للدكتاتوريين في القرن العشرين، من المسيرات المصمّمة بعناية إلى الرقابة الحديدية. لقد عمل هؤلاء الدكتاتوريون بلا توقف على صورتهم الخاصة، وشجّعوا السكان بشكل عام على تمجيدهم.
تعتمد قدرة سعيّد اليوم أن يصبح دكتاتورا، كما السيسي من قبله، فقط على المجتمعين التونسي والمصري
يعرف الكل أن للسلطة تاريخ انتهاء الصلاحية. ويعرف الجميع أنها كانت في العالم العربي عبر الموت البيولوجي، ثم بعد الربيع العربي أصبح وعي المجتمعات العربية كبيرا وقادرا على أخذ زمام المبادرة، وإنهاء صلاحية الدكتاتور مبكرا. صحيح أن جوزيف ستالين بقي في السلطة 31 عامًا، وماو تسي تونغ 27 عامًا، وبينيتو موسوليني 23 عامًا، وأدولف هتلر 12 عامًا. وحسني مبارك 29 عاما، وحافظ الأسد 30 عاما، ومعمر القذافي 42 عاما، لكن مؤلف الكتاب يورد أن تكرار السنوات ذاتها أصبح اليوم مستحيلا، فهو يوضح أن هناك عنصرًا آخر لطول العمر الاستبدادي: "على الدكتاتور أن يغرس الخوف في شعبه، ولكن إذا استطاع إجبارهم على الهتاف به، فمن المحتمل أن يعيش فترة أطول". ولذلك تعتمد قدرة سعيّد اليوم أن يصبح دكتاتورا، كما السيسي من قبله، فقط على المجتمعين التونسي والمصري، وليس على صفاتٍ خاصة لدى كل من اثنيهما اللذين يبدو أنهما يتعلّمان من بعضهما بعضا.
كانت ميزة التحوّل الديمقراطي في تونس لأن في البلد طبقة وسطى كبيرة قادرة على الدفاع عن مكتسبات الثورة، وهذا ليس الحال في مصر أو سورية أو اليمن أو ليبيا. ولكن هذه الطبقة الوسطى ضعفت كثيرا مع الانهيار الاقتصادي في تونس خلال السنوات العشر الماضية. ولذلك جاء انقلاب سعيد ليؤرّخ هذه اللحظة، ولكن ربما تستعيد هذه الطبقة مرونتها وحيويتها، وتسقط هذا الدكتاتور الذي بدأ بالتعلم من القاموس حديثا، كما أسقطت من قبله بن علي، وهو الذي أتقن مفردات هذا القاموس وطبقها بحذافيرها.