كأس العالم: ذروة القوة الناعمة لقطر
كثيرا ما تثار مسألة الجدوى أو المكاسب الاقتصادية التي ستجنيها قطر من تنظيمها بطولة كأس العالم، وعن نجاح نموذجها الرياضي. أريد القول إنه ليس نموذجا رياضيا بمعنى الكلمة، ولكنه نموذج قوة ناعمة، فهدف قطر لم يكن استثماريا بقدر ما هو التأثير من خلال القوة الناعمة، وهو، إلى قدر كبير، امتدادٌ لنموذج قناة الجزيرة، وبعضها مزدوج الهدف، قوة ناعمة واستثمار. ويعتقد كاتب المقال أن ذلك ينطبق على استثمارات قطر الخارجية في الرياضة، وغيرها من استثمارات في أوروبا وبعض أنحاء العالم. ولمّا ظلّت الخطوط الجوية القطرية، إلى حد ما، تحلّق في السماوات المفتوحة إبّان فترة جائحة كورونا، بينما كانت معظم أساطيل الخطوط الجوية العالمية رابضة على الأرض، لم يكن الهدف اقتصاديا بقدر ما هو جيواقتصادي، أي استخدام الاقتصاد لتحقيق مكاسب سياسية، ومنها إبقاء اسم قطر حاضراً على الساحة العالمية، وتقوية علاقاتها الجيوسياسية، والتأثير في دوائر صنع القرار من خلال هذه الاستثمارات، لتحقيق مصالح قطر الوطنية، وهو هدفٌ مشروع جداً، وتمارسه دول كثيرة. وكذلك الهدف من تنظيم بطولة كأس العالم لم يكن اقتصاديا، وإلا لربما كان غير مجدٍ، مع تحييد ما تحقّق من مكاسب ضمنية باكتمال بنية تحتية متطوّرة بسبب البطولة جانبا، فالهدف كان تعظيم القوة الناعمة لقطر، والذي أكاد أقول إنه بلغ ذروته بتنظيم بطولة كأس العالم، التي يفترض أنها عكست أوج صعود قطر.
هل نجحت قطر في ذلك؟ أقول: نعم نجحت، على الأقل على المدى القصير إلى المتوسط، ونترك الآجل الطويل، وآثاره الأخرى، ومنها السياحة والاقتصاد، للزمن، فلا يمكن الحكم عليها الآن. لقد نجحت البطولة في تثبيت قطر الصغيرة جغرافيا على خريطة العالم، وفي العمل على تفكيك الصورة النمطية المشوّهة عن العرب والمسلمين إلى حد كبير، ولكن ذلك بحاجة للبناء عليه، وللاستمرارية، ليس بواسطة قطر وحدها، ولكن غيرها ممن يفترض أن يهمهم هذا الأمر من الدول العربية والإسلامية، فقطر قدّمت نموذجاً ناجحاً حريٌّ أن يُحتذى به، وقد رمت بثقل تراثها وحضارتها العربية الإسلامية في سبيل تحقيق ذلك، ولو لبست ثوباً غيره، كما ألبست ميسّي البشت، لما تحقّق لها ما تريده.
نجحت بطولة كأس العالم في تثبيت قطر الصغيرة جغرافيا على خريطة العالم، وفي العمل على تفكيك الصورة النمطية المشوّهة عن العرب والمسلمين إلى حد كبير
ليس نجاح قطر الباهر في مجرّد تنظيم فعالية عالمية كبرى، ولكنه في انتصار منظومة القيم والأخلاق، ممثلة بالحضارة العربية الإسلامية، على النموذج الغربي، الأشبه بالبهيمي الباحث عن المتعة بأي ثمن، من إدمان مُسكرات ومخدّرات، وشذوذ وانحلال، ولعل هذا سبب توتر الغرب واشتداد حملاته المحمومة مع اقتراب البطولة، وكأن هؤلاء قد أفاقوا من النوم فجأة واكتشفوا أن قطر هي التي ستنظم البطولة! وإن ألبست حقوق العمّال، ثم المرأة، فالإنسان، فاللوطيين، فالقطط، فالكلاب، وغيرها. والحقيقة أن تنظيم قطر البطولة معلوم سلفا لأكثر من عقد. ولكن المفاجئ كان ربما هو الطريقة التي ستنظّم بها قطر البطولة، فكأنه يؤُمل أن تُجبر حملات الضغط هذه قطر على تغيير موقفها، والتخلي عن نموذجها القيمي الجديد للبطولة، وذلك لعلمهم أن المنازلة ستُسقط النموذج الغربي، بما لذلك من تبعاتٍ ودلالاتٍ على انحدار الحضارة الغربية وتحدّي قيادتها العالم.
ويفرض هذا الإنجاز على قطر تحدّيين، الاتساق والاستدامة (continuity and consistency)، فالمحافظة على ما تحقق تتطلّب الاستمرارية أو الصيانة. وإذا كان المستهدف الغرب، فإن التكلفة ستكون مرتفعة، وهنا تطرح مسألة الجدوى والاستدامة والأولويات، وفرصة التكلفة الضائعة، أي ماذا لو استثمرت تلك الأموال في مجال آخر، وليكن في القوة الصلبة مثلا؟ والقوة الناعمة قد تكون مكلفة بطبيعة الحال، وكذلك المحافظة على استدامتها وتأثيرها ولذلك يجب التقييم والموازنة باستمرار بين المكاسب والتكاليف بكل أنواعها. وقد عوّدنا الغرب على ضعف الذاكرة، في أحسن الأحوال، وإذا أضفنا إليها العنصرية والاستعلاء، فهذا يعني جحود النصر، ونكران الهزيمة، وإن استيقنتها أنفسهم، فهذا الصنف لن يرضيه شيء، وإن فرشت له الملاعب حريراً وطليت مقاعدها ذهباً، فقد أعمته الكراهية والاستعلاء والعنصرية، وكلما ازددنا نجاحاً استشاطوا غضباً، ولن يرضيهم إلا شيء واحد، وهو التخلّي عن قيمنا وديننا، وتراثنا وحضارتنا، ونصبح توابع لهم. .. ولكن ما قيمة ذلك النصر حينها؟ وهل هو نصر لنا أم لهم؟
للمحافظة على نجاح قطر والدفع به إلى الأمام ممثلاً بنموذجها الأخلاقي والقيمي، يجب الاتساق بحيث يشمل مجالات أخرى
أنصح بعدم الاكتراث كثيرا، وإضاعة الجهد والمال في محاولة تغيير نظرة هؤلاء إلينا؛ فهناك من شعوب الأرض الصاعدة وغير الصاعدة من هم أوْلى وأكثر إنصافا وتقبلا، وأقلّ عنصرية من الغرب، وقد ثبت ذلك في بطولة قطر، والتحوّلات العالمية تسير في تغيير الأوضاع السائدة لغير صالح الغرب على أية حال. ولكن، في الوقت نفسه، سيكون لهذا النصر ردود فعل، وستحارب قطر، وعليها توقع ذلك، وإنْ بأبناء جلدتها، من أذناب الغرب من المنافقين العرب وهم كُثر، وإن كنا لا نعدّهم في العير، ولا في النفير، فوضعهم يثير الشفقة، يغيظهم كل نجاح لقطر، وكل نصر للأمة، غير أن فائدتهم الوحيدة أنهم كالترمومتر؛ فكلما اشتد عويلهم ولطمهم، اعلم أن ذلك مؤشر على النجاح. وللمحافظة على نجاح قطر والدفع به إلى الأمام ممثلا بنموذجها الأخلاقي والقيمي، يجب أيضا الاتساق، بحيث يشمل المجالات الأخرى، من سياحة واستثمار واقتصاد، وغيرها، حتى يعطي قوة ومصداقية، وانطباعاً موحداً، وليس صوراً مشوّهة، أو رسائل متناقضة، تهدم ما تم إنجازه.
لقد كسبت قطر من الجهتين، أمام خصومها في الخارج، والمتحفّظين في الداخل، ممن كان لديهم بعض التخوّفات، من تنازلات قد تخلّ بالقيم أو السيادة، أو نحو ذلك، وإن كان مؤقتا، ولم يسع الجميع في الخارج والداخل، إلا الإعجاب والاحترام، ورفع القبّعة والعقال.