"كلارينيت" ... أو بيروت 1982
يعرض الفنان الفلسطيني، فادي الغول (51 عاما)، منذ أزيدَ من عشر سنوات، مسرحيّته المونودراما "كلارينيت" (إعداد وإخراج أكرم المالكي). ومجدّدا، وبعد نحو مائتي عرض في فلسطين وعدة دول، يستضيفها في عمّان مهرجان الرّحالة لمسرح الفضاءات المفتوحة، في دورته الثانية (دورة عبد الرحمن عرنوس)، وتُحرِز فيه جائزة لجنة التحكيم الخاصّة. ويُتاح لكاتب هذه الكلمات أن يراها في هذه المناسبة، ويغتَبط بها كما جمعٌ طيّبٌ من مشاهدين نوعيين. ولعلها مصادفةً حسنةً أن تتيسّر فرصةٌ جديدةٌ لمشاهدة هذه المونودراما التي تطوفُ، بلعبٍ مسرحيٍّ جذّابٍ ومشدود، في أجواء الاجتياح الإسرائيلي بيروت في صيف 1982، فيما تعبُر ذكرى ذلك الحدث الكبير، والمنعطف، في التجربة الوطنية والإنسانية الفلسطينية (واللبنانية بداهةً) في مثل هذه الأيام. ومن مزايا في هذا العمل الذي تآلفت فيه روافُعه ومفرداتُه الموسيقيةُ واللحنيةُ، وكذا جماليّاته في الأداء والحركة، وانتقالات إيقاعاته الحسّية والوجدانية والشعورية، أنه لا يستدعي اللحظات الحارّة من أُتون ذلك الحدث، وهو حربٌ وقصفٌ وعُدوان، من زوايا سياسية أو بإحالاتٍ خطابيةٍ وطنيةٍ عن مقاومةٍ وبسالةٍ وصمود، وإن يمرّ على بعضٍ طفيفٍ من هذا، وإنما ينجح في أن يبثّ مضمونَه العاطفي، الفلسطيني على محملٍ ما، من خلال محكيّات طفلٍ في نحو العاشرة (فادي الغول نفسه، ابن لاجئيْن فلسطينيين في لبنان، في ذلك العمر)، يقول ما يتدافع إلى خواطره عمّا يجري له ولأسرته، وعمّا يشاهد، وعمّن يلتقي ويُحادِث، وعن طائراتٍ تقصف وملاجئ وفنادق وشوارع وحارات، وعن موتٍ متحقّقٍ وآخر متوقّع، وعن خوفٍ يُقاوَم بحب الحياة، بالحكي عن الجميل، بالسخرية والتهكّم، وعن عزفٍ موسيقي، وعن كلارينيت، وعن راديو يُخبِر عن فيليب حبيب، وعن مذبحةٍ في مخيّمي صبرا وشاتيلا ينجو منها الراوي، وعن تفاصيل ووقائع تتوالى، وتتقاطَع، شدّتنا إلى أجوائها وأمكنتها، وزمنها المعلوم في مداركنا، نحن المشاهدين في ساحة ساقية الدراويش في جبل اللويبدة في عمّان، الطاقة الخاصة في الأداء وتنويعاته لدى الممثّل الموهوب، حقّا، فادي الغول.
إذن، هي واحدةٌ من قصصٍ بلا عدد لدى الشعب الفلسطيني في تغريباته الوفيرة. يرويها الفتى الصغير الذي يلجأ مع أسرته من منزلهم إلى ساحة الصنايع في بيروت، هربا من موتٍ قد يأتي به قصفٌ إسرائيلي غادر، ثم يُؤخذون إلى فندقٍ يأوون إليه مع عائلاتٍ وأسرٍ أخرى، يعثُر في إحدى غرفه على "كلارينيت"، الآلة الموسيقيّة التي لا يعرِف شيئا عنها، فيدرّبه على النفخ فيها اللبناني الأستاذ نصري. والموسيقى مركزيةٌ في هذا العمل المسرحي (70 دقيقة) الذي يبدأ بمعزوفة بيانو، وينتهي بعزف كلارينيت يؤدّيه الطفل الراوي عند قبر أمّه التي تُتوفّى في أثناء الحرب، قبل مذبحة صبرا وشاتيلا التي ينجو منها الطفل وجدّته وشقيقته عندما أمكن أن يخرجوا من باب خلفي لمنزلهم إلى خلاء. وثمّة بين مقاطع تتداخل وتنفصل، نعرف فيها عن والدتِه ووالده الفدائي والفتاة نورا التي يحبّها ثم تغيب، كأنها ماتت، وعن صديقه أشرف الذي يهرُب معه في أثناء غارة، لكن القذيفة تقتُل هذا الصديق، ثمّة فيروزياتٌ مُغنّاة وأزيز طائرات وأصوات انفجاراتٍ وألحانٌ لموسيقاتٍ عاليةٍ وأخرى خافتة، وثمّة مشاهدُ من حواراتٍ يؤدّيها فادي الغول بإجادةٍ ظاهرةٍ في تعبيرات الأصوات وتنغيماتها واختلافاتها، بحضورٍ متقنٍ لمؤثّراتٍ صوتيةٍ تنوّعت وتعدّدت، ومنحت المسرحية عموما قدرةً على إشاعة المنحى الدرامي، المشحون والممتلئ، في حواسّ المشاهد الذي يتلقّى هذا العمل بانجذابٍ كبير. وذلك كله قبل أن يُنثرَ الرزّ على الفدائيين في وداعهم، وهم يغادرون بيروت إلى منافي جديدة، وبينهم والد الطفل الذي يحكي ويحكي، ويأخذ أخيلتَنا وأفهامنا إلى ذلك المقطع البيروتي من زمن الرواية الفلسطينية المديدة، من مداخل عاطفيةٍ وإنسانية، فيها كثيرٌ من الرهيف والعميق.
كان فادي الغول قد قال إنه اختار الكلارينيت لأنها مثل سلاحه، لأن في نفخِه فيها تعبيرا عن أمل، والفلسطينيون، رغم كل شيء، متفائلون. وقسطٌ غير هيّن من التفاؤل أظنّ أن هذه المسرحية أشاعته فينا، نحن الذين شاهدناها وأبهجتنا بالإمتاع الذي أحدثتْه فينا، على الرغم من تراجيديّتها، تفاؤلٌ بأن ثمّة كفاءاتٍ ذات قدراتٍ عاليةٍ في الفنون المشهدية فلسطينيا، في وُسعها أن تجدّد وتصنع الجميل والأجمل. شكرا فادي الغول، شكرا مدير مهرجان الرّحالة لفنون الفضاءات المفتوحة، الفنان حكيم حرب.