كلام مبكر عن انتخابات فرنسا
معطيات كثيرة ستتغير في الأشهر الستة المقبلة التي تفصل فرنسا عن انتخاباتها الرئاسية في دورتَي 10 و24 إبريل/ نيسان 2022. من أصل حوالي 20 مرشحاً حالياً، بعضهم هامشيون جداً، وبعضهم الآخر شديد الجدّية، ومَن هو بين الفئتين، سيصمد عدد قليل من الطامحين الرئاسيين. لكن إلقاء نظرة أولية على المشهد الانتخابي الذي انطلق باكراً، من شأنه إعطاء فكرة عن تحولات عميقة في آليات اشتغال السياسة الفرنسية الداخلية، والجزء الأكبر من هذه التغيرات عنوانه يتصل بثلاث من سمات الزمن الحاضر: أولها صعود الشعبوية التي، وإن انطلقت من اليمين أو من اليسار، فإنها تصب في نهاية المطاف في برنامج عمل يميني قومي فاقد للأخلاق وللحس الإنساني. ثانيها التراجع القيمي على مستوى الأفكار والأشخاص والبرامج والمعارك السياسية. ثالثها صعود اليمين المتطرف بسرعة معاكسة لمجرى الحياة: الحياة تتطلب جهداً جماعياً ومنظوراً أممياً لإنقاذ الأرض ومَن عليها من خطر الزوال بسبب المخاطر البيئية وتغوّل النيوليبرالية الاقتصادية أولاً، بينما يحلو للرأي العالم، موزعاً على القارات، أن يميل نحو التعصب والانغلاق وكره الجيران والأجانب والانعزال بحجة الحمائية، رافعاً عالياً لافتة "أنا ومن بعدي الطوفان".
من أعلى هذه الأعمدة الثلاثة، تكتسب الإطلالة على المشهد الانتخابي كل سوداويتها. في عام 2021، صار لدى اليمين الفاشي مرشحان اثنان جدّيان لا واحد مثلما درجت العادة منذ لعنة انتخابات 2002: إريك زيمور ومارين لوبان. الابنة العريقة للفاشية الفرنسية في القرن العشرين، ورمزها جان ماري لوبان، صارت تُحسب معتدلة مقارنة مع الصحافي الذي يريد منع إطلاق أسماء عَلَم "غير فرنسية"، تحديداً محمد، على المواليد الجدد، وإعادة فرض عقوبة الإعدام وترحيل المهاجرين والتخلص من المسلمين ولو كانوا من حملة الجنسية الفرنسية. صارت الابنة الشرعية للفاشية الفرنسية تظهر كأنها ليبرالية عندما توضع إلى جانب زيمور الذي يريد إعادة أمجاد "فرنسا الكاثوليكية" (علماً أنه يهودي)، والذي لا يرى أن المرأة يمكنها أن تكون مساوية للرجل تماماً، وهو الذي يشكك بحقيقة التغير المناخي، ويهنئ نفسه على جرائم إسرائيل... زيمور هذا، مرشح للوصول إلى الدور الثاني لمنافسة إيمانويل ماكرون، هذا لو حصلت الانتخابات اليوم، بحسب بعض استطلاعات الرأي، وإن كان قول ذلك مرفقا بتحفظ شديد حيال مصداقية مؤسسات سبر الآراء وتقنيات عملها. في انتخابات ربيع 2022، يُرجح أن يصطف جيش من المرشحين والأحزاب التي تتشارك ما يعرف في فرنسا بـ"القيم الجمهورية" خلف إحدى نكبات السياسة العالمية والانتهازية الكونية، إيمانويل ماكرون، بحجة قطع الطريق أمام مرشّح/ مرشّحة اليمين المتطرّف "الأنتي سيستم". في سجالات انتخابات 2022، تبوح الأولويات بتورّم في الهموم المعيشية ــ الأمنية: مشاغل الناخبين بحسب استطلاع أجري لفائدة صحيفة "ليزيكو" ما بين 22 و23 سبتمبر/ أيلول الماضي تتدرج كالتالي: القدرة الشرائية أولاً، ثم الأمن ثم الحماية الاجتماعية ثم الهجرة ثم البيئة ثم الحرب على الإرهاب ثم التوظيف ثم التعليم والتكوين المهني ثم انعدام المساواة الاجتماعية ثم الضرائب ثم الدين العام والعجز في الميزانية ثم السكن، وأخيراً، دور فرنسا في العالم، وشؤون الاتحاد الأوروبي وختاماً العولمة. قبل ستة أشهر من انتخابات 2022، سبعة مرشحين يساريين (آن هيدالغو ــ الحزب الاشتراكي، ويانيك جادو ــ الخضر، وفابيان روسيل ــ الحزب الشيوعي، وجان لوك ميلانشون ــ فرنسا غير الخاضعة، وآرنو مونتبورغ ــ حزب اشتراكي سابقاً) ومرشحان تروتسكيان آخران، لا تتجاوز نيات التصويت لأقواهم (ميلانشون) حاجز العشرة في المائة. قبل ستة أشهر من انتخابات 2022، اليمين يزايد على اليمين بينما اليسار يأكل نفسه.
أمام السواد العام هذا، تخرج مناظرات تستحق اسمها، وتشفي الغليل. جان لوك ميلانشون في مناظرته مع إريك زيمور على قناة "بي أف أم تي في" (متوفرة على يوتيوب)، يُفرح قلب كل من هو ليس فاشياً.