كلمات في طريقها إلى خسارة معناها
لا يمرّ يوم، بل لا تمرّ ساعة، من دون أن تطنّ تلك الكلمات في آذاننا عن لبنان: انهيار، انفجار، ارتطام، مجهول، قعر، ضياع، خراب، جحيم، سقوط، حرب أهلية، مأساة، زلزال، تايتانيك (الباخرة)، مجاعة، مهوار، كارثة، نفق أسود .. وإذا وضعتَ هذه الكلمات في "سياقها التاريخي"، ونظرتَ إلى تحتها حيث تحصل الأفعال، حيث تكون الحياة اليومية والعادية، سوف تحسّ بشيء من السينمائية. إذ تبدو هذه الكلمات غير الملحّنة وكأنها الموسيقى التصويرية لوقائع حاصلة أيضاً كل ساعة، وبوتيرةٍ أسرع من الكلمات. وقائع الشجارات بين المواطنين في المتاجر، وبينهم وبين أصحابها وموظفيها، وأحياناً إطلاق رصاص وجرحى، من أجل: كيس سكّر أو حليب مجفَّف، أو كرْتونة بيض أو قنينة زيت. من فوق، تُطلق الكلمات كموسيقى تصويرية، ومن تحت، تُلتقط المشاهد المناسبة لها، والمتناغمة معها.
طبعاً يمكن التبحّر بأفعال الأفراد الذين من تحت، بحياتهم، وبما يطرأ عليها من عوامل الهوان، والتقصير، والفقر، والجوع.. إلخ. لكن هذه الوقائع ليست كلها مسجّلة على "يوتيوب"، ولا تصل إلى الأعداد الغفيرة. والمشهد، من هذه الناحية، يُختصر هكذا: أصوات عالية، تنْشد بتلك الكلمات، بلهجة الهلَع، وصور حيّة لرجال ونساء "يترجمون" هذه الموسيقى، يفسّرونها، بما يتعرّضون له يومياً من بهْدلة وفقر وجوع .. إلخ.
نحن المواطنين البسطاء، المتضرّرين المباشرين من حكمهم، والزهقانين من لاسياستهم، والطافشين إلى بعيد لو قدروا.. يريدون أن يقنعوننا بأنهم صحيح هم الحكام، ولكنهم أيضاً يعانون!
والعجيب في هذه الكلمات أنها لم تعُد تقتصر على الإعلام أو الصحافة، ذوي الأجندات، أو من دونها. ولا على المواطن البسيط صاحب البوستات. إنما صارت من صميم ألسنة السياسيين الحاكمين، اللامبالين، المنشغلين بوَسْواس واحد، هو حصتهم، غنيمتهم. هؤلاء أيضاً صاروا يتكلمون عن زلْزال وتايتانيك وانهيار .. إلخ. بوتائر مختلفة، بوجوه متشابهة، كالحة، وأحياناً بطرائف سمجة، وبعضها بائت، مثل مطالبة نائبٍ معروفٍ بحجم سلطته بأن يستقيل جميع النواب، بمن فيهم هو، وأن يذهبوا إلى بيوتهم، لأنهم فاشلون، لن يصلحوا ولن يبادروا، ولا من يحزنون.. وبعد هذه الكلمات مباشرةً، ماذا يفعل النائب الكريم؟ يعود إلى مكتبه كأنه لم يقلْها (مثلما كان يفعل هو وزملاؤه النواب في الأيام الخوالي، عندما كان ينْتحل صفة المواطن البسيط ويسأل باستنكار شديد "أين هي الدولة؟!"). أو طرفة أخرى، لا تقلّ استهتاراً بالكلمات: قول رئيس الجمهورية إنه قال لزوجته ناديا ذات يوم "ليتَني ورثتُ بستان جدّي، ولا عملتُ رئيس جمهورية". مضحكة هذه الطرفة، وفيها "براءة" الزاهد بالكرسي.
هل هم مجرّد خرْفانين، أم أنهم يحسبون كلماتهم حساباً دقيقاً؟ أي، هل هم يعون ماذا يقولون؟ الأرجح أن نعم، يعون ويألفون هذا الوعي. مثلهم مثل بقية "زملائهم" من الحكام، المداومين على عَلْك هذه الكلمات، عبر تويتر، أو فيسبوك، أو تصريح، أو بيان...؟ فأنهكوا هذه الكلمات وحوّلوها إلى كليشيهات، أو حوّلوها إلى غيوم سوداء تلقي بظلالها على المناخ، على الأمْزجة، على المصائر، على اللغة والمواقف. مناخ مظلم، ثقيل، عاصف، لا ينتظر فيه المنْضوين تحت قبّته إلا شيء يشبه يوم القيامة. والأرجح أن نعم: السياسيون الحاكمون، مهما بلغت درجة خلافاتهم واختلافاتهم، فهموا أن النطق بالكلمات إياها، عند كل لحظة، في كل بيان، أو رسالة، له ثمار مباشرة، نوع من أنواع الكنز الذي يحلم به واحد منهم، بحسب درجته أو حجم حصته.
حكّام صادروا اللغة كغنيمة من غنائم حربهم على شعبهم
الآن، تحت هذا المناخ المصنوع من تلك الكلمات، ماذا يريد "المسؤولون" المردِّدون لها أن نفهم منها؟ بهذه الكلمات التي أصبحت بديهيات، عن زلزال وتايتانيك وانهيار .. يريدون أن يزايدوا علينا. نحن المواطنين البسطاء، المتضرّرين المباشرين من حكمهم، والزهقانين من لاسياستهم، والطافشين إلى بعيد لو قدروا .. يريدون أن يقنعوننا بأنهم صحيح هم الحكام، ولكنهم أيضاً يعانون .. لا تأخذوا عنهم الفكرة الغلط. بترداد هذه الكلمات، يفهمونك أنهم يشعرون ويرصدون ويتوقعون. مهمومون مكتئبون. يعلمون أن هذه الكلمات لا تخرج من قلبهم، وأنهم يكذبون. لكنهم لا يأبهون. لأنهم بحاجةٍ إلى كلمات "منتجة" ذات وظيفة، تملأ فراغ جعبتهم من الخيال والمبادرات. ويفترضون أنهم بذلك يطمئنون المواطن البسيط بأن "الحال واحد" بينهم وبينه.
ولكن من جهة أخرى، نحن الذين ذهبنا بعيداً بالكلام المعسول عن كوننا شعب "فينيق"، لا تسْقطه أعاصير، ولا تهزّه كوارث، ينهض من الموت كل مرة، إلى ما هنالك من أهازيج كبرنا عليها وصدّقناها. تريدنا هذه الكلمات أن نعْتاد على الزلزال وتايتانيك والانهيار... كما سبق وتكيّفنا مع ما سبقها من مِحَن. أن تكون غزارة كل هذه الكلمات تهيئةً لنا لمزيد من القساوة، أو الجوع. شيء يشبه الإعداد النفسي، أو تدريب على الشدائد. بل عودة اللبناني إلى أصالته، إلى طائره المقدّس، الفَيْنيق. أي أن المطلوب من هذه الكلمات أن نتكيّف مع المصائب المقبلة، المتدحْرجة سريعاً نحونا.
بأي كلمات نصِف خسائرنا، بعدما فقدت الكلمات معانيها...؟
الكلمات ترافق الهرْولة نحو المصيبة. ولكن على وقْع رتابتها واعتياديتها، على تَطاوِل عمرها، تتحوّل إلى هراء وركاكة. مثل طقس يومي فارغ مفروض تلاوته أمام واقع تدهور الأحوال. والكلمات لا تنطبق أحياناً على تفاصيل التدهور. إنما تُرمى الفادِحة منها على الكبائر كما على الصغائر، من دون التدقيق في درجة المصيبة. هكذا، وربما لسنوات أخرى مقبلة، تفقد الكلمات منْزلة من منازل اللغة مع الارتفاع الحتمي لدرجة المصائب. وعندما نصل إلى خواتم هذه الجُلْجلة، تكون كل منازل هذه الكلمات قد تبخّرت، أو تآكلت، أو تهدّمت، ولم نعُد نجد كلمة صحيحة، لوصف ما يحصل لنا.
فيكون السؤال: بأي كلمات نصِف خسائرنا، بعدما فقدت الكلمات معانيها في بازار حكّام صادروا اللغة كغنيمة من غنائم حربهم على شعبهم؟