كل هذه الآبار المهجورة
إنّها، إذن، قضيةٌ ذات خطورةٍ، اسمها الآبار المهجورة في المدن والأرياف والقرى العربية. مأساة الطفل المغربي ريان أورام تُنبّه إليها ليس الإعلام الغافل عنها فقط، وإنّما أيضاً السلطات المسؤولة، لتبدو هذه كأنها كانت في حاجةٍ إلى واقعة الطفل الشهير في قريته لتفطَن إلى هذه القضية. صرنا نعرف أن هذه الآبار، المهجورة، والتي لم تعد صالحة للاستعمال، منتشرة في المغرب بشكل كبير. وقد عقدت السلطات المحلية في أقاليم المملكة اجتماعاتٍ مستعجلةً لحصرها، ولإطلاق حملةٍ نشطةٍ وعموميةٍ لردم الآبار المكشوفة. ورئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة (هل من شبكاتٍ مثيلةٍ في غير المغرب؟)، علي لطفي، يقول إنه ينبغي سنّ قانونٍ يمنع حفر الآبار العشوائية، ويوجِب ردم المهجورة منها. وفي السعودية، أفيد بأن السلطات ردمت 2450 بئراً مهجورة بعد واقعة ريان، ودعت وزارة الزراعة المواطنين والسكان إلى الإبلاغ عن هذه الآبار، وأطلقت خدمة نظامٍ من خلال منصّة إلكترونية أو رقم هاتف معلن، استحقّ شعارُه إعجاب صاحب هذه السطور، "ببلاغك تُنقذ روحاً". وفيما سارعت وزارة المياه والري في الأردن إلى إعلان أن جميع الآبار المهجورة، وغير المجدية، يتم ردمُها وإجراء اللازم بخصوصها بشكل فوري، أخذت بلدية معان (جنوب) على عاتقها إطلاق حملةٍ لردم الحفر والآبار المهجورة في المدينة. وقد صودفت، في الأيام القليلة الماضية، بتأثير من وقع محنة ريان، أخبارٌ غير قليلة مثيلة، من قبيل إغلاق أهالي قرية فلسطينية غرب رام الله فوّهات الآبار المكشوفة. أما ولاية المسيلة في الجزائر فقد أمرت الفلاحين أصحاب الآبار الأرتوازية والتقليدية بتأمينها وتغطيتها، وأعلنت عن إجراءاتٍ لمتابعة تنفيذ هذا، ومعاقبة المخالفين. وفي مدينة الذيد في الإمارات، بدأ فريقٌ خاص بحصر الآبار المهجورة والعشوائية، وباشرت البلدية بردمها.
تتلملم هذه الأخبار هنا بهدف تنوير القارئ بوجاهة الزعم أعلاه، أن الآبار المهجورة قضيةٌ ذات خطورة في غير بلد عربي. وفي الوسع أن يقال بصددها إنها مؤشّرٌ كاشفٌ، ودالٌّ على أنها متعدّدةٌ أوجهُ التقصير في تأمين شروط السلامة العامة، وفي توفير بيئاتٍ آمنة، للمجتمعات المحلية، في الأرياف والقرى العربية، فضلاً عما يسوقه أمر انتشار تلك الآبار التي غالباً ما يُقدِم الأهالي (الساكنة بتعبير مغاربي ذائع) على حفرها من إحالةٍ إلى نقصٍ ظاهرٍ في الماء، وإلى أن عطشاً حادّاً يغالبه هؤلاء الناس يدفعهم إلى توسّل الماء من الأرض بالحفر كيفما اتفق، وبالعشوائية المرجوّ منها أن تأتي بالماء المشتهى، النادر. وإذ هذا هو بعض الحال بشأن الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، فإن في وسعك، بالقياس، أن تحدس بأحوالٍ أخرى تتعلق بالعيش في ظروفٍ تنقص فيها الحاجيات والضرورات. ولعل أهل الاختصاص من العاملين في البحث الاجتماعي والمسحي والبيئي هم الأدرى بهذا كله، وقد أنجز كثيرون منهم دراساتٍ على درجةٍ من التوفيق العلمي المؤكّد، أوضحت ما أخفقت فيه خطط التنمية بشأن "المجال القروي"، على صعيد تيسير سبل التنمية المتوازية، غير أن الحاجة تبقى ملحةً لمزيدٍ من مثل هذه الأبحاث والكشوفات والمسوحات والتحليلات، بالتوازي مع خروج خطط الحكومات وبرامجها بشأن الهوامش والأرياف والقرى عن الوعود التقليدية، وعن الترضيات الموسمية، والمشروعات المناسباتية.
لا تُبقيك مسألة الآبار المهجورة في البلاد العربية في حدودها، وفي أوجه خطورتها، وفي التحذيرات منها، وإنما تأخذُك إلى حزمةٍ عريضةٍ من إشكالات التخطيط العام، السكاني والإنمائي، مع التسليم بأن إنجازاتٍ تتحقق هنا وهناك، ومشاريع مهمة تنهض في غير شأن، إلا أن المسافة بين الملموس وغير الملموس ما زالت طويلة، والفجوات بين الحضري والقروي عديدة. وتعطيك قضية انتشار الآبار المهجورة، في بلدٍ شاسعٍ وغني كالسعودية مثلاً، دليلاً على أنّه فيما التكنولوجيات ووسائط الاتصال المتنوعة، الرقمية وغيرها، أمكن لها أن تحطّم أيّ حواجز قائمة ومتخيلة بين المدينة والريف، بين الفضاءات التقليدية والمتمدنة، فتلقى هذه التكنولوجيات قد عبرت القرى، إلّا أنّ ثمّة وجوهاً من شظف العيش (إنْ جاز استخدام هذا التعبير المكرور هنا) ما زالت باقية، ومسيّجةً بالفقر والعوز والبطالة ونقص الخدمات والتسرّب المدرسي والغلاء، وغير هذا كله من تفاصيل لوحةٍ غير سارّة، بائسةٍ أحياناً، كئيبةٍ أحياناً أخرى، وإنْ أبلغتنا محنة الطفل ريان أنّ الذي يجمع بين الناس أكثر مما يفرّق، حفظ الله الجميع.