كل هذه الشهية الإسرائيلية لعلاقاتٍ مع السعودية؟
"الجائزة الكبرى"... هكذا ينظر الإسرائيليون المتخصّصون في الدراسات الاستراتيجية إلى السعودية، إن نجحت إسرائيل في تطبيع علاقاتها معها. ويعكس هذا التعبير إلى أي مدىً تطمح إسرائيل إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع المملكة، لما تمتلكه من مقوّمات اقتصادية وجغرافية هائلة، كذلك فإنه يعكس درجة أهمية المملكة ومكانتها بين دول العالمَين، العربي والإسلامي.
من المعروف أن المواقف الرسمية السعودية تؤكّد ربط التقدّم في عملية السلام مع إسرائيل بحجم الإنجاز في القضية الفلسطينية. ولذلك، لا يركز المقال على الموقف السعودي، بل يركز بالأساس على الرؤية الإسرائيلية لمستقبل العلاقات مع السعودية. وقد لوحظ في الأسابيع القليلة الماضية أن ما تفرده مراكز الدراسات الاستراتيجية والصحافة الإسرائيلية من مساحة عن هذا الموضوع، واحتمالية التطبيع، كبير للغاية؛ فالصحافة الإسرائيلية لا تكاد تخلو أخيراً من أخبار الاتصالات والوساطات التي تبذل في هذا المسار. وهناك سبب بالطبع لهذا الاهتمام؛ فإسرائيل أصبحت تقيم علاقات معلنة مع دول عربية كثيرة، باستثناء دول ذات ظروف خاصة، أو مرتبطة بعلاقات قوية مع إيران، كالعراق وسورية. وبالتالي، فالسعودية حالياً هي الدولة العربية الأهم التي تعطيها إسرائيل كل الاهتمام اللازم، فضلاً عن أنها ستفتح لها آفاق العالم الإسلامي بما تمتلكه من مكانة دينية.
الحديث عن مباحثات إسرائيلية سعودية، مباشرة وغير مباشرة، لا ينقطع في إسرائيل؛ من ذلك مثلاً ما أشار إليه موقع القناة 12 الإسرائيلي من مباحثات هاتفية، وصفها الموقع بالمعقّدة، بين نتنياهو ووزير خارجيته إيلي كوهين ووليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، من أجل التوصل إلى اتفاق بين البلدين. وأكد الموقع أنه حصل على معلوماته من مصادر سعودية، وأن المباحثات تجري بوساطة وزير خارجية البحرين عبد اللطيف الزياني، بناءً على طلب المملكة، وقد فضل مكتب نتنياهو عدم الحديث عن الموضوع. وكانت تقارير إسرائيلية قد أشارت، قبل ثلاثة أسابيع، إلى تقدّم مباحثات التطبيع السعودي الإسرائيلي بمساعدة الأميركيين، إلى جانب تصريح جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، بأن واشنطن تعمل من أجل التوصل إلى اتفاق تطبيع بين الرياض وتل أبيب.
دول المنطقة لديها مشكلات اقتصادية وتريد إصلاح وضعها الاقتصادي (تركيا ومصر)، أو هي دول غنية توجّه اهتمامها للداخل
وعلى الرغم من أن مواقع إسرائيلية وصفت المباحثات بين البلدين بالمكثفة، مثلما فعل موقع القناة 12، إلا أن تقريراً للقناة 7 أوضح أن مكتب رئيس الوزراء فضّل عدم التعليق على الموضوع، ثم عاد مكتبه لينفي التفاصيل، والأكثر من ذلك أن وزارة الخارجية الإسرائيلية قالت إن "الخبر غير صحيح". ولا ينفي نفي تفاصيل ما تورده التقارير رغبة إسرائيل في تحقيق التطبيع، كذلك فإنه لا ينفي وجود محاولات أميركية ووساطات، بعضها خليجي، للوصول إلى هذا الهدف، إلى جانب أنه لا يتعارض مع ما دأبت السعودية على التصريح به، أنها تربط السلام مع إسرائيل بالتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين.
وقد عقد معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل، قبل أيام، ندوة ناقشت آفاق إقامة علاقات دبلوماسية مع السعودية، والمتغيرات الدولية والإقليمية التي يمكن أن تؤثّر في تقدّم المباحثات. ويرصد كبير الباحثين في المعهد، يوئيل جوزانسكي، ثلاثة متغيرات، أثّرت في التحوّلات الأخيرة في المنطقة؛ أولها تأثير تغير أولويات الولايات المتحدة في مواجهة الصين وروسيا في أوكرانيا على دورها في المنطقة. ويرتبط ثانيها بتنامي قوة إيران رغم الضغوط الاقتصادية وعدم استقرار وضعها الداخلي بسبب المظاهرات. أما المتغير الثالث، فهو أن دول المنطقة لديها مشكلات اقتصادية وتريد إصلاح وضعها الاقتصادي (تركيا ومصر)، أو هي دول غنية توجّه اهتمامها للداخل، وتسارع في إنشاء مشاريع من أجل التنمية، وتريد تأمين الوضع السياسي من أجل نجاح هذه المشاريع (دول الخليج، خصوصاً السعودية)، وهذا المتغير هو نتيجة لتوقّف حركات الاحتجاج في العالم العربي، وضعف حركات الإسلام السياسي. ومن هنا، جاء تقارب الدول الخليجية مع إيران، وعودة العلاقات بينها وبين السعودية. وطبقاً لرأي جوزانسكي، لا يدلّ هذا التقارب على سلام حقيقي، بل هو من قبيل أخذ دول الخليج بمقولة دون كورليوني في الفيلم السينمائي الأشهر الأب الروحي "اجعل أصدقاءك قريبين، وأعداءك أقرب".
هناك عامل رابع يضيفه رئيس الموساد السابق، يوسي كوهين، يرتبط بوجود لاعبين جدد في المنطقة في أواخر الربيع العربي؛ إذ عادت روسيا إلى المنطقة فدعمت بقاء نظام الأسد، وكذلك أصبحت الصين موجودة أخيراً، ليس بتأثيرها الاقتصادي أو التكنولوجي فحسب، بل بثقلها السياسي أيضاً. ومن هنا، لم تعد مقولة "أميركا تقول، والآخرون ينفذون" سارية بالشكل نفسه مثلما كان في الماضي. ويرى كوهين أن تصريحات وليّ العهد السعودي في علاقته العلنية مع الصين تبدو وكأنها تقول: لدينا خيارات أخرى، ليس السعودية وحدها، بل دول عربية أخرى، وهذا بحكم ما تملكه السعودية من تأثير متزايد بالدول العربية، وقد نجحت الصين في تأدية دور الوسيط في عودة العلاقات السعودية الإيرانية.
السعودية كأنها تبحث عن مصلحتها في ظل تراجع الدور الأميركي، وفي ظل علاقات مع الولايات المتحدة ليست في حالتها المثالية
ويتحدّث مدير معهد دراسات الأمن القومي، تامير هايمان، عن ظاهرتين أثرتا في ما يحدُث حالياً في الشرق الأوسط: أولاهما الهزّات المتتابعة التي شهدتها المنطقة مع بداية الربيع العربي، والتي ظلت مستمرّة ومتكرّرة خلال السنوات العشر الماضية، وترتبط هذه الظاهرة برواية تراجع الدور الأميركي في المنطقة. أما الظاهرة الثانية، فهي تقليص حجم الخسائر التي تتعرّض لها ثلاث دول تحديداً، إيران وسورية والسعودية، نتيجة الصراع الدائر بينها ومحاولة كل طرف إيذاء الآخر. وبالتالي، تبدو هذه الدول كأنها تحاول أن تضع حداً لخسائرها عبر الدبلوماسية والاتفاقات.
تطرح هذه العوامل السابقة سؤالاً مهماً لدى الإسرائيليين: إلى أي مدىً يمكن أن تكون السعودية حريصة على تطبيع علاقتها بإسرائيل، خصوصاً أن الاستراتيجية التي كانت تحرّك إسرائيل في بناء علاقتها بدول الخليج كانت مبنيةً على تكوين تحالف لمواجهة الخطر الإيراني؟ كذلك يفترض المنطق أن يؤدّي استئناف العلاقات السعودية الإيرانية إلى تقوية موقف الرياض في أي مباحثات سلام قادمة مع إسرائيل، لأنها من الناحية النظرية لم تعد في حاجةٍ للتحالف معها في مواجهة إيران. ويبرهن الإسرائيليون على ذلك بأن العامين الماضيين شهدا إداناتٍ سعودية للاعتداءات الإسرائيلية أكثر من أي وقت مضى. لم تكن هذه السياسة السعودية على هذا النحو مطلقاً في عهد ترامب؛ حيث كان العداء السعودي الإيراني واضحاً في تصريحات القادة السعوديين، وفي مقدمتهم وليّ العهد محمد بن سلمان، ما يفيد بأن السعودية كأنها تبحث عن مصلحتها في ظل تراجع الدور الأميركي، وفي ظل علاقات مع الولايات المتحدة ليست في حالتها المثالية، يضاف إلى ذلك أن تقاربها مع إيران قد يضرّ بمستوى التعاون مع إسرائيل، اقتصادياً، واستخباراتياً.
يؤكّد الخبراء الإسرائيليون أنه مع إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام مع السعوديين، تقف صعوبات جوهرية في طريق التوصل إلى هذا الاتفاق
على العكس من ذلك، يقول يوسي كوهين إنّ إسرائيل يجب أن تتفهّم لماذا أقدمت السعودية على هذه المصالحة وألا تنظر إليها على أنها تريد التباعد عن إسرائيل، ويرى أن هناك إمكانية كبيرة لأن يكون هناك تطبيع بين البلدين، ويوافق هايمان على فكرة أن العلاقات السعودية الإيرانية لا تؤثر في فرص التطبيع بين السعودية وإسرائيل، ويضرب مثالاً على ذلك بما تفعله الإمارات التي تقيم علاقات ممتازة مع إسرائيل رغم تبادلها السفراء مع طهران.
في ذات السياق، يرى رئيس مركز موشيه ديان للدراسات الاستراتيجية، عوزي رافي، أنه لا علاقة مطلقاً بين عودة العلاقات السعودية الإيرانية وإمكانية التطبيع بين السعودية وإسرائيل. ويقول: "إن إسرائيل، في حال تحلّيها بالحكمة، سيكون لها مستقبل كبير في الشرق الأوسط، هذه الحكمة تفرض عليها تفهم الطرف الآخر، ومعرفة الطريق الذي يختاره اللاعبون الآخرون في المنطقة". ولكن الخبراء الإسرائيليين يؤكّدون أنه مع إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام مع السعوديين، ثمة صعوبات جوهرية تقف في طريق التوصل إلى هذا الاتفاق. يتعلّق بعضها بالسعودية؛ إذ يعتقد الإسرائيليون أن الملك سلمان لا يؤيد التطبيع مع إسرائيل، كذلك فإن التقديرات الإسرائيلية تشير إلى أن ما بين 70% إلى 80% من المواطنين السعوديين لا يوافقون على التطبيع، يُضاف إلى ذلك أن المكانة الدينية للمملكة في العالم الإسلامي تمثل عائقاً يجعلها حذرة من أن يؤدّي تطبيعها مع إسرائيل إلى جعلها تدفع أثماناً لا تريدها، هذا كله إلى جانب أن السعودية لن تقبل بأن تظل القضية الفلسطينية تراوح مكانها من دون إحراز تقدم. وهناك صعوبة أخرى تتعلق بمطالبات سعودية من الوسيط الأميركي بالحصول على برنامج نووي كامل؛ ويجمع المتخصّصون الإسرائيليون على أن السعودية في سعيها لإيجاد توازن قوي مع إيران، تريد من واشنطن مساعدتها على تخصيب اليورانيوم مقابل التطبيع مع إسرائيل. لكن الجميع في إسرائيل يتفقون على أن هذا ثمنٌ أكبر من قيمة التطبيع بكثير، لا يمكن أن تدفعه إسرائيل، ومن المستحيل الموافقة عليه، ولا أن تسمح بتمريره بصمتها.
لا شك في أن الرغبة الإسرائيلية في التوصل إلى اتفاق سلام مع السعودية كبيرة للغاية، وهي ظاهرة في الصحافة، وفي ما تقدّمه مراكز الدراسات الإسرائيلية، بل وعلى لسان المسؤولين بما يصل إلى حد الإلحاح. ويحذّر المتخصّصون هناك من أن هذا الإلحاح قد يزيد الثمن الذي يمكن أن تدفعه إسرائيل مقابل اتفاق سلامٍ مع السعوديين.