كل هذه العربدة الإسرائيلية
لا توجد دولةٌ تبصق في وجه العالم، وتدوس المعاهدات والمواثيق والقوانين الدولية بقدميها، وتنتهك سيادة الدول، بعد الولايات المتّحدة أو بقدر مواز لها، مثل إسرائيل. بل للدولة العبرية ميزةُ تقدّمها في هذا السياق على راعيها الأميركي، إذ إنّها لا تتردّد حتّى في أن تبصق في وجهه إذا اقتضت حساباتها ذلك. لم تكن إسرائيل لتقوم لولا ارتكاب الحركة الصهيونية جرائمَ إبادة، وجرائمَ ضدّ الإنسانية، وجرائمَ حرب، وجرائمَ تطهير عرقي. تاريخها حافل بذلك وسُطِّرَت فيه كتبٌ، وهو سجلّ لم يُغلق بعد. وهي ما زالت تُؤمن بأنّ بقاءها مُرتبطٌ بقدرتها على الاستمرار في إجرامها وعربدتها من دون رقيب ولا حسيب، وتكفي حرب الإبادة الوحشية، التي تشنّها في قطاع غزّة راهناً، شاهداً على ذلك. الأدهى أنّها تجد دوماً سبيلاً لتفادي تبعات المسؤولية، إذ إنّ حلفاءها، وتحديداً الولايات المتّحدة، يهرعون لتحصينها واحتواء أيّ تداعيات قد تترتّب عن سلوكها المشين والإجرامي. وقديماً قيل "من أمن العقاب أساء الأدب". هذا هو ديدن إسرائيل الذي ليست له كوابح ولا ضوابط ما دامت واشنطن في ظهرها، سواء أكانت هذه الأخيرة راغبة أو مُكرَهة في أحايين أخرى.
اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، صباح يوم الأربعاء الماضي (31 يوليو/ تمّوز)، في طهران، لا يُمثّل خروجاً من السياق بالنسبة لإسرائيل. الاغتيالات السياسة تجري من الدولة العبرية مجرى الدم من العروق، إذ إنّها جزء من جيناتها الوراثية، حتّى ضدّ حلفائها. في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1944، اغتالت عصابة ليحي الإرهابية الصهيونية اليهودية، المُتفرّعة من منظمة شتيرين، اللورد والتر إدوارد غينس (بارون أول موين) في القاهرة. كان اللورد موين وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط، وكانت الحركة الصهيونية تنتقم منه لعدم تشجيعه الهجرة اليهودية إلى فلسطين. ورغم هذه الجريمة ضدّ مسؤول رفيع فيها، استمرّت بريطانيا في تأييد وتمكين الحركة الصهيونية من تهويد فلسطين، متغاضيّة عن العمليات التي تشنّها العصابات الصهيونية ضدّ سلطاتها الانتدابية في فلسطين المُحتلّة. يذكّرنا ذلك بتستّر الولايات المتّحدة على جريمة إسرائيل في حقّ سفينتها البحرية "يو إس إس ليبرتي"، التي هاجمتها القوات الإسرائيلية في المياه الدولية في البحر الأبيض المتوسّط (8 يونيو/ حزيران 1967)، في عملية أسفرت عن مقتل 34 وجرح 171 بحّاراً أميركياً. قبل ذلك، كانت العصابتان الصهيونيتان، الهاغاناه وأرغون، تغتالان الوسيط الأممي الكونت السويسري فولك برنادوت، في القدس، بسبب اقتراحه وضع حدّ للهجرة اليهودية، ووضع القدس بأكملها تحت السيادة العربية. المثير هنا أنّ كلّاً من مناحيم بيغن وإسحاق شامير، المتورّطين في عمليتي اغتيال موين وكونت، أصبحا رئيسي وزراء لإسرائيل، في حين أنّ أحدَ مُنفّذي عملية اغتيال موين أصبح حارساً شخصياً لمؤسّس الدولة العبرية ديفيد بن غوريون.
إسرائيل أداة مركزية في مشروع إمبريالي يهدف إلى إخضاع المنطقة العربية ومحيطها
سجلّ إسرائيل المخزي في هذا السياق طويل ومُتخَم، وساحات الاغتيالات السياسية التي ارتكبتها كثيرة، لم توفّر حتّى عواصم حلفائها، في باريس وروما ولندن وأثينا ونيقوسيا، جنباً إلى جنب مع عواصم عربية، كما في بيروت وتونس والقاهرة ودمشق وعمَّان. وإذا كانت الدول الغربية لم تُحاسب إسرائيل على اغتيال مواطنين تابعين لها، أو جراء انتهاكاتها المُتكرّرة لسيادتها، وارتكابها جرائم في أراضيها، فإنّه من السذاجة بمكان تصوّر أن يحاسبوها على تعدّياتها على سيادة دول عربية أو إسلامية، أو من عالم الجنوب يقاربونها استشراقياً ودونياً. ومن ثمَّ، لا غرابة في أن تُبادر واشنطن إلى تبنّي استراتيجية "الأفعى المجلجلة" أو "أفعى الجرس"، مصدرةً تحذيرات لإيران ولبنان بأنّها لن تتردّد في الدفاع عن إسرائيل أمام أيّ هجوم انتقامي على اغتيال هنيّة في طهران، وقبل ذلك المسؤول العسكري في حزب الله فؤاد شكر في بيروت. المفارقة هنا أنّ إدارة جو بايدن تزعم أنّها حريصةٌ على إنجاز صفقة إطلاق نار في قطاع غزّة، وتبادل للأسرى، بين "حماس" وإسرائيل، واحتواء أيّ تصعيد إقليمي للصراع، خصوصاً مع دخول لبنان وسورية والعراق واليمن، وربّما إيران الآن، على الخط. بمعنى أنّه يحقّ لإسرائيل تجاوز الخطوط الحمراء، حتّى لو كان ذلك عبر البصق في وجه أميركا نفسها، والاستهانة بحساباتها الاستراتيجية والسياسية، أمّا الآخرون فليس لهم إلّا العصا، في حين تتلذّذ تلّ أبيب بالجزرة وحدها.
الحقيقة التي لا مراء فيها أنّ إسرائيل أداة مركزية في مشروع إمبريالي يهدف إلى إخضاع المنطقة العربية ومحيطها. وبغضّ النظر عمّا إذا كان المُشَغِّلُ الإمبريالي (وهو أميركا هنا) كثيراً ما يفقد السيطرة على أداته، فإنّ الواقع يبقى هو هو، إذ لا يمكن ارتجاء العدل والإنصاف من الشريك في الجرم. وكلّ حديث عن معاهدات ومواثيق وقوانين دولية، بلّ حتّى عن أحكام قضائية، إنّما هو، للأسف، من باب ذرّ الرماد في العيون، وهو تسرية عن الضعفاء، الذين لا يقيم لهم أقطاب التوحّش والفوضى في العالم وزناً ولا قيمة. إنّ العالم لا يحترم إلّا الأقوياء. هذه هي الحقيقة. والأَمَرُّ منها، أنّنا نحن العرب شراذم مُتفرّقة لا يعبأ بنا أحد.
أخيراً، من عاش بالسيف مات بالسيف. قاعدة ذهبية يُعمي الصلف والغرور أبصار صنّاع القرار الإسرائيلي عنها، رغم أنّ في مجتمعهم عُقلاءَ يحذّرون من ذلك المصير المحتوم.