كمال داود... غلادياتور وخطاب ما بعد الكولونيالية

13 نوفمبر 2024
+ الخط -

يبدو العنوان غريباً، إذ يجمع بين أديب بدأ بحصد جوائز عن رواياته وفيلم سيُعرض قريباً، هو الأكبر من حيث النّفقات (250 مليون دولار) والدّيكور الضّخم (أعاد المخرج، ريدلي سكوت، بناء الكوليزي، المسرح الروماني الشّهير). ولكن، عند الغوص، عميقاً في تزامن الحدثين (الجائزة والفيلم) نجد أنّ العالم يتغيّر نحو وجهاتٍ لا ننتهي من التّعجُّب بمآلاتها التي لخصها بطلُ "غلادياتور"، الممثّل الأميركي دنزل واشنطن (نال جائزتي أوسكار من قبل)، في حوار له على قناة فرنسية، العالم يتغيّـر وأرجو، أضاف "أن يتجسّد خطابي الذي ألقيتُه في حفل تنصيب أوباما لنقم بما يجب حتّى نكون شخصاً واحداً، في التّفكير والعمل" (We Are One)، أي ابتكار ذلك الإنسان الذّي يفكر على نسقٍ واحدٍ لفائدة الكلّ بعيداً عن الأنانية.

لطالما كتب صاحب هذه السطور، في "العربي الجديد"، عن نماذج لكتّاب أصابهم الاغتراب الفكري، فأصبحوا يغرّدون خارج سرب هُويّتهم وضدّ ثوابت أمّتهم. ومنهم، على سبيل المثال، بسبب نيله أرقى جائزة أدبيّة في فرنسا، جائزة غونكور للعام 2024، كمال داود، الكاتب الجزائري أو، بالأحرى، وهكذا يعرّف نفسه، الفرانكو- جزائري، مزدوج الجنسيّة ومتذلّل لأمّه فرنسا.

بهذه المناسبة، هناك من تحدّث عن لغط، في الجزائر، بسبب هذه الجائزة، إلى درجة أنّ بعضهم كُتب، في مقالة له، أن هناك من حسد كمال داود عليها، وما يتبعها من شهرة في الأوساط الأدبيّة الفرنسيّة، وأنّ التّحجُّج بالهويّة، في حوارات الكاتب وبالمواضيع التي يثيرها في مقالاته التي يكتبها في أسبوعية فرنسية يمينيّة الهوى، ما هي إلّا سبيل لانتقاده والنّيْل من شخصه. في حين أنّ هؤلاء، من فريق المحتجّين على شخص كمال داود وخطّ سير موهبته الأدبيّة، لهم ما يدفعهم إلى ذلك الموقف، خاصّة أنّ الأمر لم يظهر فجأة، بل تراكم، على مرّ عشرة أعوام، من 2014، التي انتقل فيها داود إلى العيش في فرنسا (استقرّ بصفة دائمة، في 2021)، تدريجياً، ولكن عبر تحوُّل خطّ تفكيره، وأخذ كتاباته إلى ألوان محدّدة، لها صلة بالولاء الفكري، تتناسب مع مواقف فرنسا من الذّاكرة التّاريخية الجزائرية المتنازع بشأنها مع فرنسا ومن قضيّة فلسطين، ما سنحاول الكتابة عنه، في هذه المقالة، لتبيان ذلك الانحراف الفكري المصاحب، دوماً، في ما يخص المغاربيين (كاتبان من المغرب، الطاهر بن جلون وليلى سليماني وكمال داود)، مع مواقف إزاء الهويّة وقضايا الأمّة خاصّة قضية فلسطين، كما سنرى.

كمال داود، كما قال أحدهم، من فريق المحتجّين، بمنطق، أُعطي له خطاب جيّد، وطلب منه أن يخرجه بمنطق خطاب ما بعد الكولونيالية، مع فارق أن ما بعد الكولونيالية تعمل على التّنديد بالظّاهرة الاستعماريّة ومساوئها، في حين أنّ ما قام به داود هو التّحايل على القارئ، في روايته الصادرة أخيراً، بتضخيم العشرية السّوداء (المأساة في الجزائر في أعقاب توقيف المسار الانتخابي، في 1992، وذهب ضحيتها عشرات آلاف من الجزائريين). وهي، في الحقيقة مأساة، بكلّ ما تحمله العبارة من معنى وأبعاد وتداعياتها في الذّاكرة الجمعية الجزائرية ما زالت حاضرة وحيّة. ولكن ليس على حساب الليل الاستعماري الاستيطاني لفرنسا، في الجزائر، الذي دام أكثر من 130 عاماً (1830 - 1962) الذي ذهب ضحيته، وفق مصادر موثوقة وقرائن مستنتجة من ظاهرة تناقص عدد الجزائريين في الإحصائيات الدّيمغرافية التي قامت بها فرنسا، نفسها، خاصة بين 1830 و1870، ما يربو عن عشرة إلى 12 مليون جزائري بمختلف الأشكال والأدوات من القتل، المحارق، المجازر، المجاعات المتكرّرة، التجنيد الإجباري، النفي نحو جزر المحيط الهادي... إلخ.

إلى جانب ذلك التّحايل، لم يتوان كمال داود عن إظهار أمته وشعبه بأسوأ الصُّور والتماثلات، معزّزاً الصُّورة النمطية/ دعاوى/ ادّعاءات التي يحملها الغرب، والفرنسيون على وجه الخصوص، بل مؤكّداً لها، من كبت جنسي، عداوة للمرأة، خصومة مع الحريات وإسلاموية/ تطرف، إضافة إلى معاداة السّامية، وكلها تهم كالها ضد الجزائريين في حواراته وفي مقالاته الأسبوعية التي كان ينشرها وما زال في أسبوعية يمينية. وخاتماً ذلك كله بروايته التي أظهر فيها كراهيته الجزائر التي عمل، للتذكير، مستشاراً للرئيس الفرنسي، ماكرون، في أثناء زيارته الجزائر في 2022، في ملفٍّ رمزي كبير، هو الذّاكرة. وتقول مصادر إنه من أوحى لماكرون بخطاب ريع الذاكرة الذي تعمل السلطات، في الجزائر، على استخدامه لابتزاز فرنسا.

للقارئ أن يتساءل عن وجه التناسب بين كمال داود وجائزته تلك وفيلم سينمائي مرتقب (غلادياتور). والإجابة، هنا، تتضمّن شكل (ومضمون) الحديث الذي ظهر فيه الممثل الرئيس للفيلم على قناة فرنسية، ثم رسائل الفيلم، نفسه، ونحن على أعتاب منعرج نيوليبرالية ترامب بكلّ ما تحتويه من تغيّراتٍ سيعمل على طبع النّظام السّياسي الأميركي والاقتصاد العالمي بها، على المديين، القصير والمتوسّط.

لكمال داود كلّ الحرّية في أن يكتب ما يريد، وأن يعمل، جاهداً، على أن ينال ما يتطلع إليه من جوائز. ويحقّ للآخرين في المقابل تبيان عوار ما يقوم به

ظهر الممثل دينزل واشنطن واثقاً بنفسه، وكانت إجاباته على ما عهدناه منه، مدافعاً عن حقوق السود، في أميركا، ومنوّهاً بالإنسانية، فيما يقوم به من أعمال سينمائية ومسرحية، برع فيها ونال، كما ذكرنا، جائزتي أوسكار عنها، ويُرتقب أن ينال جائزة ثالثة عن فيلمه الجديد، غلادياتور. وقد كان، في مضمون إجاباته، مقتضباً، وحمل كلامه ما كان يريد أن يتحدّث عنه من مشوار حافل في السينما (يبلغ الممثل 70 عاماً) وعن مساندته أوباما الذي ما زال يقول عنه إنه أفضل رئيس، من أصول أفريقية، عرفته أميركا من حيث الدفاع عن الأقليات وسن القوانين الاجتماعية التي حمت الطبقات المهمّشة والهشّة.

على العكس من ذلك، كانت لكمال داود لقاءات صحافية بعد إعلان نيله جائزة غونكور للعام 2024، التي بدا فيها مزهوّاً باحتفاء الفرنسيين به وقد اعتبروه أجرأ من تحدّث عن الجزائر، معارضاً كلّ المسلّمات التي اعتبرها، هو نفسه، في كتاباته وحواراته، انحرافات عن الحياة على النّسق الغربي، حيث لم يترك تهمة إلّا ورمى الجزائريين بها، مثل ما فعل، في 2016، عندما كتب مقالة عن أحداث مدينة كولون (ألمانيا)، حيث جرى اعتداء على بعض النّســــــــاء، واتُّهم عرب ومسلمون (مغاربيون) باقتراف ذلك، وبعد تحقيق نزيه أجرته الشُّرطة الألمانية، تمت تبرئتهم، لكن كمال داود أصر على كتابة مقالة مشينة عن الكبت الجنسي للمغاربيين، واتّهم المجتمعات المغاربية، والجزائر خصوصاً، بمعاداة الحياة الطّبيعية، ومنها الحرّية الشّخصية والمرأة. وللمفارقة العجيبة، رفض تلك المقالة مثقفون فرنسيون، أشهر بعض منهم بياناً نشرته صحيفة لوموند اتّهموا فيه كمال داود بأنّه إسلاموفوبي (كاره للمسلمين). وهذه تهمة، في العادة، لا تُقال إلّا عن الغربيين كارهي المسلمين، وليس عن شخصٍ من أصول إسلاميّة.

وعلى العكس من ثقة دينزل واشنطن، عمل الإعلاميون الفرنسيون على إبراز أنّ جائزة كمال داود سياسية، بل ذهبت محلّلة، في تعليق لها، على قناة إذاعية إخبارية، إلى أنّ الجائزة لم يمنحها الرُّواة والأدبيون، بل جاءت بإيعاز من رجل الأعمال، اليميني المتطرّف، بولوري. وأبعد من ذلك، عندما سُئل عن تعريفه الحب، أجاب أن التّعريف الجيّد، لديه، هو قبول الآخر، ممّا تعجّب منه محاورُه، لأنّه يعرف، تمام المعرفة، أنّ كمال داود لا يعرف قيم قبول الآخر الذين يبرز كراهيته لهم في كتاباته، خاصة مواطنيه من الجزائريين والمغاربيين، بصفة عامّة.

لم يتوان كمال داود عن إظهار أمته وشعبه بأسوأ الصُّور والتماثلات، معزّزاً الصُّورة النمطية/ دعاوى/ ادّعاءات التي يحملها الغرب

لكمال داود كلّ الحرّية في أن يكتب ما يريد، وأن يعمل، جاهداً، على أن ينال ما يتطلع إليه من جوائز. ولنا، نحن، في المقابل، كلّ الحق، في أن نبيّن عوار ما يقوم به، وجاءت مناسبة عرض فيلم "غلادياتور"، قريباً على الشّاشات الأوروبية، لنبرز مدى الفارق بين شخصيتين، تدّعي إحداهما أنّها تنتمي إلى عالم الخيال الرّوائي، وتسمو بقيم الإنسانية، من خلال كيل التُّهم والكذب على بلاده وشعبه وشخصية كاريزمية في عالم الخيال السّينمائي. ولكن بثقافة واسعـــة، وهو يهم للقيام بالعمل الإشهاري لفيلمه، حيث يظهر مستوى الاثنين في الحديث. ويبرز، للكلّ، تعامل الفرنسيين مع من يعتبرونه مترجماً لتعاليمهم المستمر، الاستعماري والاستيطاني، على الجزائر وعلى المغاربيين، عموماً، حيث لم يجرؤ كمال داود، للذّكر، على انتقاد طريقة تعامل الفرنسيين مع شخصيةٍ محترمة، الفكاهي من أصول مغربية، ياسين بلعطّار، الذي رافق ماكرون في زيارته، قبل أيام، المغرب، وأظهر الإعلام الفرنسي كراهيته له، لأنّه، بكلّ بساطة، وعلى العكس من داود، ذهب إلى ماكرون، في قصر الإليزيه، ليثنيه على المشاركة في مسيرة ضدّ معادة السّامية، كونها ستعمل على تقسيم المجتمع الفرنسي، على خلفيّة ما يجري في غزّة من مجازر إبادة.

أمّا خطاب ما بعد الكولونيالية، فلن تجد فرنسا أفضل من بوعلام صنصال وياسمينة خضرا أو كمال داود، للتّعبير عن وجوب تجاوز الذاكرة والتّعامل مع الماضي أنّه، كما قال ساركوزي، في خطاب له، في السّنغال، في أثناء رئاسته فرنسا، إنّ التّاريخ أبرز قابلية أفريقيا للاستعمار، وإنّها لا يمكنها إلا أن تبقى في تبعية لباريس، مبرّراً بذلك الظّاهرة الاستعمارية والمشروع الاستيطاني، برمّته.

في الأخير، مع التّرحُّم على روح اللاعب القدير في فريق جبهة التّحرير الجزائرية، في أثناء الحرب التّحريرية الكبرى، رشيد مخلوفي، لا نملك إلا أن نقول إن هناك من باع الدنيا من أجل وطنه (عبارة منقولة قالها أحدهم، للأمانة) ومن باع وطنه لينال جائزة مع التّساؤل عن موقف كمال داود، لو أنه عاش انطلاق ثورة التحرير في الجزائر ونحن في شهر اندلاعها واحتفلنا، قبل أيام، فقط، بذكراها السّبعين؟