كنت سفيرا في بيروت .. ذكريات مع رياض الريّس
(1)
حينَ تجيء إلى بيروت، زائراً أو مقيماً، فإنّ تلك المدينة تأسرك بعنفوانها الثقافي والفني، أسراً لا فكاك بعده. جئتها أواخر عام 2006 سفيراً لبلادي، ولبنان الحكومة يراوح بين أزمة وأخرى. ولمّا كانت رئاسة جامعة الدول العربية في تلك الدورة بيدِ السودان، فقد كان على السودان أن يساهم قدر ما تتيح صلاحيات قمّة الجامعة لتقريب الشقّة بين القيادات اللبنانية الموزّعة بين طوائف متجذّرة في بنية لبنان السياسية منذ الاستقلال عام 1943، بل ومنذ سنوات الوصاية الفرنسية قبل ذلك.
مع انشغالاتي بمهامي الدبلوماسية، وبينها مهمتي مع موفد الرئاسة السودانية وقتذاك، لبذل مساعٍ للتقريب بين الزعامات اللبنانية، حيث للبنان رئيس حكومة تخاصم كلها رئيس جمهورية انتهت فترة حكمه. خلال ذلك الحراك المعقد مع وبين القيادات الحزبية والدينية والاجتماعية في بيروت، توسّعت شبكة علاقاتي وصداقاتي مع الرموز السياسية والثقافية اللبنانية. وما فات عليّ أن ألاحظ أنّ كلاً من الثقافة والفنون عند اللبنانيين رافعتان من رافعات الدفء ومزيلات التوتر في ساحات لبنان السياسية.
(2)
أوّل أيّامي سفيراً للسودان في بيروت، ونحن منشغلون في مساعينا للتقريب بين قيادات لبنانية متشاكسة، تعرّفتُ إلى ناشرٍ وصحافيٍّ وشاعرٍ أديبٍ إسمه رياض نجيب الريّس. هاتفني ذات يومٍ من عام 2007، ليقول لي إنه مُرسلٌ إليّ هديتين من "دار رياض الريس للكتب والنشر" التي يديرها، وهو صاحبها ومنشئها، وهيَ دار لها شهرة في مجال العناية بالتأليفِ والنشر، منذ أيام والده الصحافي السوري الكبير نجيب الريّس.
ترك خلفه مشروعاً خالداً اسمه "رياض الريس للكتب والنشر"
ثمّ حدّثني الرّجل عن علاقته الحميمة مع صديقيه السودانيين، الطيب صالح ومحمود صالح عثمان صالح، وكيف أن داره قد أصدرت لهما، كما أصدرت بينها مجموعة من اثني عشر جزءاً هي ترجمات للوثائق البريطانية المهمّة عن فترة الحكم الكولونيالي في السودان منذ 1899 وحتى عام الإستقلال عام 1956، أشرف عليها وترجم أكثرها رجل الأعمال والأديب محمود صالح عثمان صالح. ومن يعرفون محموداً رجلَ أعمالٍ واسع الصّلات ومتعدّد الأنشطة والاستثمارات، على المستويين المحلي والخارجي، قد لا يرون عنده ذلك البعد الثقافي والأدبي الذي يشغل حيّزاً معتبراً وسط اهتماماته. هو رجلٌ جمُّ التواضع، ولكنهُ متعدّد المواهب والاهتمامات: في التجارة والاقتصاد، مثلما هو مأخوذ بالثقافة والفن.
(3)
نظرتُ في الهدية الثانية، فإذا هي مجموعة "مختارات الطيب صالح"، من أعماله التي كانت تنشر مقالات، بعنوان "نحو أفقٍ بعيد" في مجلة المجلة، وأشرف على تحريرها وإعدادها للنشر وقتذاك الرّاحلان حسن أبشر الطيب ومحمود صالح عثمان صالح. ولعلّ أهمّ ما تضمنته المختارات كتاب "منسي.. إنسان نادر على طريقته"، وهو عملٌ أثار جدلاً لم ينقطع حولَ تصنيفه حكاية أم ذكريات أم رواية. عبّر رياض الرّيّس عن اعجابه بالأخوين، محمود صالح والطيب صالح، فهما من داعمي مشروعه الثقافي الكبير، خصوصا في مجالي النشر والتوزيع. كنتُ أعرف جهد محمود في دعم مشروع "مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي" في مدينة أم درمان، وقد أسّسه تخليداً لخاله السفير والوزير والمثقف الكبير، عبد الكريم ميرغني. كلّ مطبوعات المركز، بما فيها الكتب الفائزة بالجائزة الخاصة في الرواية باسم عبقري الرواية العربية، كانت تصدر عن دار "رياض الريّس للكتب والنشر" في بيروت.
(4)
ذلك كان مدخلي للتعرّف إلى رياض نجيب الريّس تلكم السنوات، فتوطدت علاقتي به، وظللت أتابع نشاط دار النشر التي يديرها، وقد احتلت موقع الصدارة في المعرض الدولي للكتاب في بيروت شتاء كلّ عام، وهو معرض راسخ التنظيم منذ أوائل خمسينيات القرن العشرين.
محبّة لافتة وألفة حميمة جمعت الراحل مع أدباء السودان وعموم كتاباتهم النثرية والشعرية
حين فاتحته عن قصائد نظمتها منذ أعوام، ولم أجد فرصة لنشرها، تحمَّس حماساً دائماً حدثني عنه لكلّ ما يتصل بأمرِ الثقافة في السودان، مُعبّراً، في الوقت نفسه، عن سخريته من المقولة التي جرتْ مجرى الأمثال، عن عواصمٍ تقرأ وأخرى تكتب وثالثة تطبع. طلب منّي "سي دي" لمجموعتي الشعرية، ليطلع عليها ويقول رأيه فيها. بعد يومين، هاتفني، كنتُ أعرف عنه ذائقته الشعرية، فهتف بي: "أنا ناشر قصائد محمود درويش.. هل تظنّ ما نظمته يقلّ جودة عن شعر درويش؟". قلت له "إنك تبالغ ..". كان ردّه: "سأطبع لك مجموعتك.."، ثم نشر مجموعتي الشعرية الأولى "امرأة البحر أنتِ"، عام 2007.
(5)
رياض الريّس شاعرً قبل أن يكون صحافيا، وكاتب مقالات وكتب في السياسة، قبل أن يكون ناشراً أوأديباً ذا بصرٍ في الإبداع. لمستُ لديه محبّة لافتة وألفة حميمة مع أدباء السودان وعموم كتاباتهم النثرية والشعرية، غير أنه لا يفتأ يحدّثني عن إعجابه بشخصين اقتربا منه واقترب منهما وأخلص لهما الودَّ كله، محمود صالح عثمان صالح والطيب صالح، عليهما الرحمة. .. رحل صديقنا الكبير رياض الريّس في 26 سبتمبر/ أيلول من هذا العام المصطخب بالعواصف والزلازل والجوائح المهلكة، عن 83 عاماً، تاركاً خلفه مشروعاً خالداً اسمه "رياض الريس للكتب والنشر"، بدأه مشروعاً طموحاً بكتابٍ واحد، فإذا هي الآن تنشر آلاف الكتب. خلّد اسمه في دار نشرٍ تنافس أكبر دور النشر العالمية، وبإيمان بأن الأدب العربي خليق بأن ينال مكانه في ساحة الأدب الإنساني.