تخبّط وهوى: كيف فقد الإخوان المسلمون بوصلتهم السياسية؟
تعرّضت، في العقد الماضي، النسخة المصرية لجماعة الإخوان المسلمين، والتي تُطلق على نفسها أيضاً اسم التنظيم العالمي، لهزتين كبيرتين وغير متوقعتين. تمثلت الأولى في الصعود السريع الذي أتاحته أحداث يناير/ كانون الثاني من العام 2011، وتمثلت الثانية في الانتكاسة التي تلتها بعامين، والتي قضت على أحلام الجماعة بالاستمرار في الحكم.
بالحديث عن هزّتين، نحاول ألا نقلل من أثر مفاجأة الوصول إلى هرم السلطة، فبالنظر إلى الوضع السابق، كانت هذه نقلة كبيرة لقيادات (وأعضاء) الجماعة، التي كان طموحها لا يتجاوز الاستفادة من المساحات المتاحة لإسماع صوتها تحت قبة البرلمان أو من خلال الجمعيات والأنشطة الاجتماعية. تغير ذلك بعد فوز مرشّح الجماعة محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية.
هناك نقاش فلسفي ليس هذا مكانه بشأن الطريقة التي جرت فيها إزاحة "الإخوان" عن السلطة في مصر، وما إذا كانت تمثل رغبة شعبية، لكن ما يهم المقال هنا أنّ هذه "الإزاحة" السريعة شكلت صدمة استمرت سنوات، لم تكفّ فيها قيادة الجماعة وأتباعها ومناصروها عن الحديث عن "الشرعية" وضرورة إعادتهم إلى الحكم. هذا الموقف المتشدّد، والذي كان يتبنّى اتجاه التصعيد وعدم الاعتراف بالنظام، جعل الجماعة تخسر الكثير، وتفقد فرص الوصول إلى حل وسيط، يتيح لها فرص العودة إلى ميدان التنافس السياسي.
"الإزاحة" السريعة للإخوان من حكم مصر شكّلت صدمة استمرت سنوات، لم تكفّ فيها قيادة الجماعة وأتباعها ومناصروها عن الحديث عن"الشرعية" وضرورة إعادتهم إلى الحكم.
في ظلّ هذه الصدمة، خرج عدد كبير من أعضاء الجماعة من البلاد ليشكّلوا بذلك أهم معارضة مصرية، ليس فقط من الناحية التنظيمية، ولكن أيضاً المالية، حيث جرى استخدامهم وسيلة ضغط من دول كثيرة كانت علاقتها متوترة مع مصر، أو أرادت الضغط عليها، لسبب أو لآخر. وظفت الجماعة أموال الرعاية المتدفقة واستغلتها في إنشاء شبكاتٍ دولية للعلاقات العامة، وفي تمويل وسائل إعلامية أو التأثير على قنوات ومواقع إخبارية، بما يجعلها تتبنّى خطابها الغارق في العاطفية، والذي يدور حول أنّ النظام السياسي المصري بلا شرعية.
هنا حصل افتراق مهم ما بين منهج الجماعة التقليدي وتشكّل أيديولوجية جديدة مبنية على أساس وحيد، هو الرغبة في الانتقام من الطبقة السياسية الجديدة، والتي يرون أنها أخذت مكانهم، وبدرجة ثانية من عامة الشعب الذي يرون أنه تخلّى عنهم. تراجع، وفقاً لذلك، الدعوي على حساب السياسي، فلم يعد التصوّر السياسي منطلقاً من مصلحة الدعوة أو من اجتهادات "السياسة الشرعية" كما كان، أو كما كانت الجماعة تصوّر منهجها للعامة، وإنما وفق ما تمليه المصلحة الآنية التي قد تجعل الجماعة تتبنّى مواقف المموّل أو "الكفيل" السياسي، وتجعلها تجتهد في أن تضع لها تخريجات تثبت رجاحتها.
الأزمة التي خرجت إلى العلن قبل أشهر بشأن الصراع والاختلافات بين مكتبي لندن وإسطنبول مجرّد مثال على حالة التيه التي تعيشها الجماعة، فجوهر الاختلاف لم يكن حول فتوى أو منهج عمل، بقدر ما كان حول ملفّات مالية واتهامات متبادلة بالفساد. انتبه كثيرون من شباب الجماعة، سواء الموجودون داخل مصر أو في الخارج، إلى أنّ أمر الانتماء للجماعة أصبح أقرب إلى "البزنس" الذي تستفيد منه قلة محظية، وتستغله في صنع علاقات مع شخصيات مهمة، وفي الحصول على أموال ومكتسبات، في حين تبقى الغالبية تعاني الفقر والعوز، ولا تجد من يمدّ لها يد العون.
بالتوازي مع أزمة التنظيم المصري، عاشت تنظيمات من الإسلام السياسي في عدد من الدول تجارب تخبّط متعددة خلال الأعوام الماضية
في خطابها الإعلامي، تمحورت استراتيجية الجماعة حول فكرة وحيدة، أنّ الوضع في مصر هو أسوأ ما يكون، وأنّه كذلك بسبب ما حدث في العام 2013. وفق هذا، كانت الأذرع الإعلامية تضخم كلّ حدث سلبي، وتسلط الضوء على كلّ مشكلة أو قضية فساد، في الوقت الذي تقلل فيه، في المقابل، من كل إنجاز لإكمال رسم صورة قاتمة السواد حول الوضع الحالي.
بالتوازي مع أزمة التنظيم المصري، عاشت تنظيمات من الإسلام السياسي تجارب تخبّط متعددة خلال الأعوام الماضية في تونس، مع تبنّي حركة النهضة خط البراغماتية السياسية والسيولة التي وصلت حدّ المزايدة على العلمانيين، لكن أيضاً في دول أخرى، كالأردن والمغرب والسودان وغيرها من البلدان التي دبّت فيها الخلافات بين اتجاهات مختلفة داخل الجماعة بسبب التنافس السياسي أو الاختلاف حول توزيع الغنائم.
من ناحية أخرى، وبشأن التعاطي مع الأحداث العالمية، يمكن للمتابع أن يلاحظ أنّ طريقة التناول لم تكن تستند إلى مقاييس المصلحة الوطنية أو الشرعية المحضة، التي يفترض أن تكون بوصلة أي تحرّك سياسي لجماعة "إسلامية"، وإنّما من منطلق الصدمة الذي جعل أي تغطيةٍ لحدث داخلي أو إقليمي مبنيةً على قاعدتين: أنّ كلّ ما يفعله الحاكم سيئ وتجب معارضته، وأنّ الجيش المصري ليس محايداً.
على سبيل المثال، كنت تستغرب خلال العام الماضي، وإبّان سيطرة "قوى الحرية والتغيير" على المرحلة الانتقالية في السودان، حماس المواقع والقنوات الإخبارية، إخوانية الهوى، للسلطة الحاكمة. كانت هذه المنصّات تستميت في محاولتها التغطية على عيوب حكم الائتلاف الحاكم، والتقليل من شأن من ينتقدونه. وجه الاستغراب هو علم أيّ متابع للشأن السوداني أنّ هذه القوى كانت تريد أن تبني الفترة الانتقالية على برنامج علماني بالكامل، وأن تؤسس بذلك لسودان جديد، بل إنّ الفترة التي تلت إسقاط عمر البشير كانت تشكل إحدى أكثر التجارب العلمانية راديكاليةً في تاريخ المنطقة الحديث.
الأزمة الإخوانية بشأن الصراع والاختلافات بين مكتبي لندن وإسطنبول مجرّد مثال على حالة التيه التي تعيشها الجماعة
هذا الموقف الذي يجعل إسلاميين "مفترضين" داعمين للعلمانية، والذي يعجز التحليل السياسي عن تفسيره، ربما تفسّره آلية الإسقاط المتبعة في التحليل النفسي، فبالنسبة لـ"الجماعة"، تعيد القصة السودانية ما حدث قبل سنوات. وهنا لا يهم أن تكون قوى الحرية والتغيير الحاكمة علمانية أو إسلامية، لكنّ المهم أنّها مدنية في مقابل الجيش، والذي هو سيئ ومتغوّل على السلطة وفاسد، ليس في مصر وحدها، وإنما أيضاً في عموم العالم العربي وفق نظرة الجماعة.
زادت حدّة هذا الموقف بعد قرارات قائد الجيش السوداني في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والتي جرت بموجبها إقالة الحكومة وإعادة تشكيل المجلس السيادي. بالنسبة للإعلام الإخواني، كان يجب التحشيد ضد هذه القرارات لسببين: الشبه بين مصير الحكومتين، والأهم، لما جرى ترويجه من وجود دعم من القيادة السياسية المصرية للجيش السوداني وإجراءاته. على الرغم من أنّه لا تأكيد على دعم مصر الرسمية لأيّ طرف في الأزمة السياسية، فإنّ ما جرى ترويجه من تنسيق بين قيادتي البلدين كان كافياً من أجل وقوف الإخوان المسلمين مع الطرف المقابل في السودان، وإن كان علمانياً أو شيوعياً.
مشكلة الإسقاط أنّه لا يكون دائماً موضوعياً، فالحكومة التي أقيلت في السودان لم تكن منتخبة، كما أنّ "الشريك" العسكري الذي حلّها هو نفسه الذي سبق واعتمدها ومنحها الشرعية، وهذا فارق كبير في تجربة البلدين.