كيف نعيد بناء منظّمّة التحرير الفلسطينية
أثار "نداء من أجل قيادة فلسطينية موحّدة" الذي أُطلق في فبراير/ شباط الماضي اهتماماً كبيراً، وحظي بمتابعة حثيثة لدى مراكز الدراسات والبحوث والصحافة، بما فيها الغربية والإسرائيلية. كما أثار نقاشاً واسعاً على صفحات التواصل الاجتماعي في فلسطين وخارجها، ساهمت فيه ردّة الفعل المتعجّلة التي بادرت إليها السلطة الفلسطينية عبر بيانات كتبها شخص واحد باسم اللجنتين، المركزية لحركة فتح والتنفيذية لمنظّمة التحرير والمجلس الوطني الفلسطيني، اتهم فيها الموقّعين على النداء بأنهم خارجون عن الصف الوطني، ويسعون إلى إيجاد منظّمة تحرير بديلة، ويتّبعون أجندات خارجية، كما هي عادة بعض القيادات المتنفّذة في اتهام أي مبادرة تسعى إلى استنهاض الوضع الفلسطيني، وتغيير واقعنا المرير الذي أوصلونا إليه.
ناهز عدد الموقعين على النداء 1400 شخصية، نصفهم من فلسطين المحتلة، والباقون مقيمون في 45 دولة، ينتمون إلى اتجاهات سياسية وفكرية متعدّدة، منهم نُخب ورموز وطنية، وأكاديميون وأدباء وصحافيون، وأسرى محرّرون، وأطباء ومهندسون، وشباب قادوا الحراك الطلابي والتظاهرات في الولايات المتحدة وأوروبا.
تأتي أهمية هذه المبادرة من أن الداعين إليها يجمعهم هدفٌ واحد، إعادة بناء منظّمة التحرير الفلسطينية، وتشكيل مرجعية سياسية موحّدة في إطارها، على أُسس ديمقراطية ووحدوية، بحيث تشمل جميع الفصائل الفاعلة والقوى السياسية والهيئات اﻷهلية والمدنية والاقتصادية، لتضمّ في إطارها جميع فئات الشعب الفلسطيني، معتبرين هذه مهمّة مصيرية ملحّة لا تحتمل التأجيل، لأن إسرائيل وحلفاءها يعدّون عدّتهم لفرض ترتيبات أمنية وإدارية تضمن الإشراف اﻷمني الإسرائيلي على قطاع غزّة منفصلاً عن الضفة الغربية، ويراهنون على تعاون فلسطيني وعربي في تنفيذها، ولا يمكن مواجهة هذا المخطّط بما في ذلك مخاطر التهجير وعمليات الإبادة الجماعية في غزّة، وإعادة الاحتلال المباشر في قرى الضفة الغربية ومدنها ومخيّماتها، وتحدّيات إعادة البناء، باستراتيجيتين متناقضتين في غياب قيادة فلسطينية موحّدة، مدركين أن قضية فلسطين عادت تحتل مكانة مركزية على جدول اﻷعمال العالمي والإقليمي، وفتحت آفاقاً جديدة لتحقيق العدالة في فلسطين بثمنٍ باهظ دفعه الشعب الفلسطيني، ولا يزال يدفعه، ولا يجوز تبديد هذه التضحيات الغالية في غياب قيادة فلسطينية موحّدة. من هنا، جاءت الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني فلسطيني يجمع شخصيات وفعاليات من جميع قطاعات الشعب الفلسطيني وفئاته، للعمل على تحقيق هذه اﻷهداف.
يجادل بعض الأصدقاء بأن العمل من أجل إعادة بناء منظّمة التحرير يقترب من كونه مهمّة مستحيلة، معزّزين ذلك بادّعائهم أن المنظّمة قد أسّست عام 1964 بقرار عربي، وأن إحياءها بعد مواتها يحتاج حدّاً أدنى من التوافق العربي، وأن ثمّة أجيالاً فلسطينية لم تسمع بها ولا تعرف شيئاً عنها، بعد أن صارت السلطة الوطنية الفلسطينية بديلاً منها. كما أن القيادة المتنفذة لن تسمح بهذا التغيير، وأوراق المنظّمة محفوظة في أدراجها، تستدعيها حين تشاء، لتبرير بعض قراراتها، مثل حلّ المجلس التشريعي، أو تعيين لجنة تنفيذية جديدة، واستبدال أعضاء المجلس الوطني من الجاليات والشخصيات والمنظّمات الشعبية وفق هواها، وتأتي بفصائل هامشية لتحتلّ مقاعد اللجنة التنفيذية، وتحرم أخرى فاعلة ورئيسة من المشاركة، وتضع شروطاً على انضمامها لا تنطبق على النظام الداخلي، مثل الاعتراف باتفاق أوسلو وخريطة الطريق، على اعتبار أنهما من الالتزامات التي تعهّدت بها منظّمة التحرير.
إسرائيل وحلفاؤها يعدّون عدّتهم لفرض ترتيبات أمنية وإدارية تضمن الإشراف اﻷمني الإسرائيلي على قطاع غزّة منفصلاً عن الضفة الغربية
لم يأتِ قرار القمة العربية عام 1964 بتأسيس منظّمة التحرير من فراغ، بقدر ما جاء تلبية للإرهاصات التي توالت في صفوف الشعب الفلسطيني في مختلف مناطق وجوده، ومحاولة لاحتوائها ضمن النظام العربي الرسمي. ولعلّ من المفيد الإشارة إلى أن تلك المرحلة شهدت ولادة بؤر وتنظيمات فلسطينية، مثل حركة فتح وأبطال العودة وجبهة تحرير فلسطين وغيرها. كما راجت دعوة رئيس وزراء العراق بعد الحكم الملكي، عبد الكريم قاسم، بالتعاون مع الحاج أمين الحسيني، في منفاه، إلى إقامة جمهورية فلسطينية في غزّة والضفة الغربية، والبدء بتدريب الشباب في الكليات العسكرية العراقية، في حين لجأ جمال عبد الناصر إلى عقد انتخابات في قطاع غزّة لمجلس تشريعي فلسطيني. كما أعلن رئيس وزراء الأردن، وصفي التل، ما أطلق عليها اسم "خطّة تحرير فلسطين"، بالتعاون مع حازم نسيبة وأكرم زعيتر، وتضمّنت، في مسوّدتها الأولى، اقتراحاً بتعيين اثنين من فلسطينيي الشتات في الحكومة الأردنية، تجسيداً لرغبتها في تمثيل الفلسطينيين في جميع أماكن وجودهم. وبالتأكيد، الشعب الفلسطيني قادر، عبر وحدته وتماسكه، على إعادة بناء مؤسّساته بشكل ديمقراطي وتمثيلي، حيثما أمكن ذلك، وبالتوافق بين قواه الحية ونخبه، عندما لا يستطيع تحقيق ذلك، وهو ما نصّ عليه النظام الداخلي للمنظّمة، ونحن على مفترق لحظة تاريخية ولّدها "طوفان الأقصى" الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث، وأوجد فرصاً نحتاج فيها إلى قيادة موحّدة لمواجهة المخاطر المحدقة بالشعب الفلسطيني، وبحقّه في العدالة وتقرير المصير والعودة والمقاومة بجميع أشكالها المتاحة، وهي مهمّة نضالية ملحّة لإعادة بناء منظمة التحرير وتشكيل قيادة فلسطينية موحّدة، تبعد شبح الانقسام وتقود النضال الفلسطيني.
تضم منظمة التحرير في صفوفها مكونات أساسية: الفصائل، والمنظمات الشعبية، والشخصيات والنخب التي تمثل التجمّعات والجاليات الفلسطينية. ويلاحَظ أن ثمة خللاً واضحاً في التركيبة الحالية، وتلاعباً ممنهجاً في مكوّناتها، إذ أُبعدت الفصائل الفاعلة، وحلت محلّها فصائل هامشية لا تستطيع تجاوز نسبة الحسم في أي انتخابات ديمقراطية، وليس لها تأثير فعلي في الشارع الفلسطيني. وما أراه أن مرحلة الفصائل، مع الاحترام لتاريخها ودورها، ينبغي إعادة النظر فيها، بحيث تمثّل الفصائل الرئيسة الفاعلة وإنهاء مرحلة التزوير الفصائلي الحالي.
تضم منظّمة التحرير في صفوفها مكوّنات أساسية: الفصائل، والمنظمات الشعبية، والشخصيات والنخب التي تمثل التجمّعات والجاليات الفلسطينية
حال المنظّمات الشعبية حال منظمة التحرير، إذ جُمّد معظمها منذ اتفاق أوسلو، إلا من رحم ربي ممن تمكّن من المحافظة على وجوده، واستطاع عقد مؤتمراته وتجديد قيادته، ولعل أوضح مثال على ذلك الاتحاد العام لطلبة فلسطين الذي ساهم منذ تأسيسه في بناء الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، لكن نشاطه توقّف منذ اتفاق أوسلو، واختفت فروعه ومؤتمراته، ويُعيّن ممثلوه في المجلس الوطني بقراراتٍ عشوائية من القيادة، وتتجاوز أعمارهم 60 عاماً. ثمّة انتخابات ديمقراطية تجري في الجامعات داخل فلسطين، ويمكن أن تُعتبر كل جامعة فرعاً للاتحاد العام، ويُعاد تأسيس فروعه في الخارج، بحيث يقرّر هو عبر انتخابات ديمقراطية، كما كان في السابق، ممثليه في المجلسين، الوطني والمركزي. وما ينطبق عليه ينطبق على الهيئات والقطاعات الشعبية كافة، مثل الأطباء والمهندسين والعمّال والمعلمين والمرأة وغيرها. وهم يشكلون جميعاً نسبة كبيرة من أعضاء المجلس الوطني، يجري تعيينهم بشكل اعتباطي لا يمت لهذه المنظمات بصلة، أو يستمر وجود أمينها العام منذ 30 عاماً أو يزيد في عضويته، من دون إجراء أي انتخابات حقيقية.
المكون الثالث المهم هو النخب والشخصيات الوطنية التي تمثّل الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده، والتي تُغوّل عليها، والجاليات التي شُرذمت، بحيث أصبح لكل فصيلٍ جالية، وحُرمت من حقّ اختيار ممثليها بشكل ديمقراطي، وتوزيع مقاعدها على من يتوافق مع النهج السياسي السائد. ويمكن معالجة ذلك في أغلب أماكن وجود الشعب الفلسطينية عبر توحيد الجاليات، بحيث تختار هي بإرادتها الحرّة ممثليها في المجلس الوطني. ويلاحَظ هنا أن حرب الإبادة الجماعية ساهمت في تقارب الاتجاهات المختلفة فيها، ما يوحي بإمكان تحقيق هذا الهدف.
توفّر هذه المكوّنات الثلاثة مشاركة الفصائل الرئيسة، وإعادة تنشيط المنظّمات الشعبية وتوحيدها، وحق الشعب الفلسطيني في أماكن انتشاره باختيار ممثليه، أساساً قويّاً لإعادة بناء منظمة التحرير، وهي عملية تمثل، في حد ذاتها، إعادة بناء للحركة الوطنية الفلسطينية برمتها، وتعبئ طاقات الشعب بأكملة، ضمن شعار المنطمة الرئيس "وحدة وطنية، تعبئة قومية، تحرير".