كُلفة الحرية السياسية
مداخلة العين مصطفى حمارنة، في مناقشات مشروع قانون الجرائم الإلكترونية في مجلس الأعيان الأردني، كانت جريئة وواضحة وصريحة، واقتربت منها بدرجة كبيرة مداخلات كل من خالد رمضان وخالد الكلالدة وعلي السنيد وعبلة العماوي وجميل النمري، وشكّلت هذه المجموعة أداءً فارقاً مهماً، أعطى قوة ومصداقية وزخماً لمجلس الأعيان افتقده مرحلة طويلة.
بموازاة ذلك، كان موقف المجتمع المدني قوياً وصلباً وفاعلاً، إذ عقد "تحالف همم" مؤتمراً حضره ممثلون عن المؤسسات المدنية والدولية المعنية بالإعلام وحقوق الإنسان، فيما غاب ممثلو الحكومة المباشرون، ما أضعف رواية الحكومة، وجعلها تبدو هشّة غير قادرة على مواجهة الانتقادات الكبيرة والعميقة التي وُجهت إلى القانون.
وكما يرصد تقرير على موقع عمّون الإخباري، كان مشروع القانون فرصة للأحزاب السياسية لتقديم نفسها بصورة مقنعة للشارع الأردني، وهو الأمر الذي استثمرته أحزاب المعارضة السياسية بجدارة، مثل الإخوان المسلمين ومعهم ممثلو الأحزاب، الديمقراطي الاجتماعي والمدني الديمقراطي والتحديث والتنمية، وهي أحزاب تنتمي غالباً ليسار الوسط.
على الطرف الآخر، لم تستطع الأحزاب التي تتموضع في يمين الوسط تقديم خطابٍ متماسكٍ قوي في موقفها من القانون، واكتفت بالصمت أو التأييد بلا خطاب أو النقد الخجول، وهذا لا يعني أن المطلوب منها كان موقفاً معارضاً بالضرورة، بل أن تقدّم موقفاً سياسياً يشتبك مع الشارع، ويقوم بعملية التعبئة مع هذا الاتجاه أو ذاك، وهو ما لم يحدث، ما يعكس فجوة كبيرة ما تزال قائمة في خطاب هذه الأحزاب السياسية وسلوكها، والخشية من أنّها إن لم تمتلك الاستقلالية كاملة وتبتعد عن التدخّلات الرسمية، فلن تستطيع أن تقنع الشارع بحضورها، أيّا كان حجمها السياسي ومهما كان عدد أعضائها، لأنّ الأردن شهد تجارب سياسية حزبية سابقة كانت برعاية رسمية لم تصمُد طويلاً، على الرغم من أنها انتفخت لحظة معينة بصورة كبيرة!
في ضوء هذا المشهد، من الضروري الإشارة إلى التخلص من عقلية التصنيف والتخوين من الأطراف جميعاً، بخاصة في أروقة النظام السياسي، إذ طغت هذه العقلية أخيرا بصورة واضحة وجلية، فيتم تقسيم الناس إلى وطنيين وموالين وغير ذلك، بناءً على مواقف سياسية. وقد تنطلق، ربما غالباً، خطابات معارضة عديدة من خندق وطني يحرص على الدولة والإصلاح والبحث عن مخارج سياسية من الأزمات. لذلك تعتبر مداخلات مجلس الأعيان ومواقفه على درجة عالية من الأهمية، فطالما كان هنالك موقف عقلاني وموضوعي فيه، وهو الذي يذيع اسمه مجلس الملك، فلم يكن هنالك مبرّر إذن سلق القوانين والسياسات بصورة خاطفة، واستفزاز المجتمع المدني والشارع، فضلاً عن تهميش دور مجلس النواب من خلال تعزيز الصورة النمطية عبر عملية تمرير مشروع القانون بهذه السرعة!
الحرية السياسية لا تخيف، والمعارضة السياسية القانونية والمجتمع المدني يمثلان مساحة أمان وطمأنينة للعملية السياسية وشرعنتها. وعلى النقيض من ذلك، التضييق على مساحة الآراء المتعدّدة والمتنوّعة، وعقلية التصنيف هما اللذان يؤدّيان إلى تفريخ حالة من الاحتقان والغضب تنتهي إلى تأزيم الأمور، وإلى تعميق الأزمة بين الشارع والنظام السياسي وتجذيرها.
ولعلّ الدلالة الأكثر وضوحاً على ما سبق أن الغالبية العظمى من القوى السياسية والسياسيين قبلوا مخرجات اللجنة الملكية للتحديث السياسي، وما حملته من ضماناتٍ للنظام السياسي، خصوصا عبر التعديلات الدستورية، ومن صفقة ضمنية على حلول وسطى، وتحرّكت المياه الراكدة وبدأ المواطنون يستعدّون للحياة الحزبية والانتخابات القادمة، وهو أمر كان يمكن تعزيزه بصورة كبيرة عبر مناخ من الانفتاح السياسي، ما يخفّف من وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية، ويوسّع قاعدة النقاش العام في البلاد، وكلفة ذلك أقل بكثير من كلفة العقلية السلطوية والإقصائية التي تقوم على التهميش والتصنيف والتخوين.
سيناريو الحرية السياسية والتعدّدية الحزبية ومناقشة الشؤون العامة وعقلنة الحوار الوطني مسار آمن، بينما مسار دول عربية عديدة اليوم، والسلطوية الجديدة من إغلاق المجال العام وخنق الحريات العامة وانتهاك حقوق الإنسان وتفريخ أحزاب موالية وقمع الأصوات النقدية هو المسار الخطير الذي لا يؤدّي إلا إلى كوارث حقيقية، والتجربة أكبر برهان.